عندما كان الفرنسيون يطلبون ود المغرب
مراسلات قبل أربعة قرون طلب فيها الفرنسيون ود المغرب

جاء الفرنسيون لكي يلتقوا بالمولى الرشيد سنة 1672، لكن توقعاتهم كلها قد خابت، إذ تزامن وجود المبعوث الفرنسي مع وفاة المولى الرشيد، واضطر إلى انتظار رسالة أخرى لتهنئة الجالس الجديد على العرش، والذي لم يكن أحدا آخر سوى المولى إسماعيل.
وانتبه الفرنسيون إلى أن تعامل المغرب معهم بعد وفاة المولى الرشيد قد تغير جذريا، ولم يعد هناك مكان للسياسة القديمة التي تصب لصالح الشركات الفرنسية.
وبلغ الأمر إلى درجة أن فرنسا استعرضت قواتها العسكرية عمدا بالقرب من مدينة سلا، لكي يرى المغاربة مدى قوة الأسطول الفرنسي.
كانت هذه أول أزمة بين المغرب وفرنسا، لكنها لم تنته أبدا بالحرب، بل على العكس تماما، تُوجت بعقد اتفاق مصالحة في مدينة المعمورة بتاريخ فاتح يوليوز 1681، أي بعد قرابة ثلاث سنوات من الانتظار..
وهذه الاتفاقية وغيرها كانت كلها تتضمن عبارات رجاء فرنسية، للحصول على رخص عبور وحق إقامة فروع شركات في المغرب.
يونس جنوحي:
عندما احتاج الفرنسيون رخصا للمرور عبر المغرب
لويس الرابع عشر، بكل تاريخه ورمزيته، كان مشغولا بالبحث عن طريقة للفوز بصداقة «ما» مع المغرب. لم تكن تهمه الشروط بقدر ما همته النتائج.
ومع المولى الرشيد الذي حكم المغرب إلى حدود سنة 1672، وفي عهده تبادلت فرنسا مع المغرب رسائل ودية كثيرة، وصل فعلا لويس الرابع عشر إلى هدفه المتمثل في الحصول على تراخيص للعبور من المياه المغربية وإنزال السفن وإنجاز المعاملات التجارية.
ما الذي وقع حتى تغيرت العلاقات المغربية الفرنسية منذ أيام المولى الرشيد، الذي شرع في التواصل مع لويس الرابع عشر منذ سنة 1665، لكي تصل إلى الأزمات التي عرفتها العلاقات بين البلدين، خصوصا في أيام محمد الثالث والحسن الأول، وانقطع فيها الاتصال؟
لم يكن اجتياح فرنسا للجزائر، واحتلالها رسميا سنة 1830، السبب الوحيد لتدهور علاقة المغرب مع فرنسا سياسيا، بل قبل ذلك التاريخ تأزمت الأمور بين المغرب وفرنسا منذ عهد المولى إسماعيل الذي حكم المغرب سنة 1672. وبعده أيضا، مع المولى عبد الرحمن ومع ملوك آخرين، شهدت العلاقات المغربية الفرنسية جفاء كبيرا.
ثم إن علاقة المغرب مع بريطانيا، كان لها أثر كبير على جمود العلاقات المغربية الفرنسية، سيما وأن طلبات الفرنسيين للمغرب لم تكن تتوقف بخصوص تأمين عبور السفن الفرنسية، أو منح امتيازات للشركات الفرنسية.
في سنة 1876، أرسل المغرب مبعوثا خاصا إلى بريطانيا لكي يبحث الأمور الاقتصادية بين البلدين في أيام المولى الحسن الأول، وكان الهدف من زيارته لقاء الملكة فيكتوريا، لبدء مباحثات بين البلدين.
مرت سنوات أخرى، وجاءت مهمة خاصة قام بها مبعوث مغربي آخر، تزامنا مع وصول إدوارد السابع إلى العرش.
ورغم أن هذه البعثة المغربية قد توجهت إلى بريطانيا في إطار مهمة رسمية، تتمثل في تقديم التهاني إلى القصر الملكي في لندن، إلا أن الهدف الأهم من الزيارة، كان بدء مباحثات ثنائية بين البلدين. إلى درجة أن الفرنسيين لم يفطنوا إلى الأمر، ووضعوا سفينة فرنسية رهن إشارة الوفد المغربي. وهو ما جعل فرنسا تستاء كثيرا لاحقا عندما صدرت الصحف البريطانية، لتكشف أن رحلة الوفد المغربي كانت مبرمجة لتحقيق التقارب بين البلدين وليس تقديم التهاني فقط، بل ونظمت للوفد المغربي رحلة للتعرف على مدن أخرى والاطلاع على إدارات ومصانع، بهدف إبرام اتفاقيات.
لماذا إذن لم تتطور الأمور مع الفرنسيين رغم أن تواصلهم مع المغرب كان مبكرا، بل وسابقا للعلاقات بين المغرب ودول أخرى مثل إيطاليا مثلا، حيث إن الإيطاليين فازوا بامتياز تسيير أول مصنع للسلاح في المغرب، ولم يفز به الفرنسيون، رغم أن فرنسا كانت سباقة إلى توقيع معاهدات مع المغرب في هذا الباب؟
والأمر نفسه مع الألمان، إذ رغم أن فرنسا استفادت دائما من اتفاقيات مع المغرب، إلا أن الأطماع الاستعمارية حالت في كثير من المحطات دون أن تُثمر الاتفاقيات على أرض الواقع.
هذه أول حرب مغربية فرنسية مُعلنة..
بين الود والأزمات الدبلوماسية، التي وصلت في عهد المولى إسماعيل إلى توظيف الرسائل النارية، لم تتطور الأمور إلى المواجهات العسكرية بين المغرب وفرنسا. بل كان هناك دائما حبل للود، يعود إليه الطرفان بعد انفراج الأفق.
وهنا، نورد نص دراسة نُشرت في عهد الملك الراحل محمد الخامس، في منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ما بين سنتي 1960 و1962، وبدا واضحا أن هذه الدراسة كانت في السابق نصا من النصوص المقررة لطلبة مدارس الحركة الوطنية، لما فيها من توظيف سياسي للمواجهات التاريخية بين المغرب وفرنسا، ومن المؤسف فعلا أنها لا تحمل توقيع صاحبها.
جاء فيها ما يلي:
«وبالجملة فان السلطان مولاي محمد بن عبد الرحمن شاهد حربين في حياته، حرب مع فرنسا وحرب مع إسبانيا، لذلك أخذ يعمل بعد هذين الحربين كل ما في استطاعته على أن لا يرى حربا ثالثة، وذلك بقضاء حياته في ترضية جميع مطالب الأوروبيين، وحصر همته في عقد المعاهدات الدولية مع جميع الدول، وكثيرا ما كان يوجه الوفود إلى أوروبا لتنهي معها جميع المشاكل، وكثيرا ما كانت هذه المشاكل في غير صالح المغرب، من ذلك المعاهدة التي وقعت بين فرنسا والمغرب سنة 1867، فأعطت لفرنسا امتيازات لم تكن لها ولا لغيرها من قبل، وفتحت أبوابا للتدخل الأجنبي في شؤون البلاد كيفما شاءت تحت التملك، وبحق الحماية، وبحق التمثيل القنصلي وغير ذلك من الأسباب التي كانت تحط من قيمة المغرب وتسير به إلى هاوية الظلام الدامس.
هذه المعاهدة المجحفة التي سبقت فيها فرنسا جميع الدول لفتح طريق شرعي للتدخل في شؤون البلاد، بعد أن مر عليها قرن كامل لم تتقدم هذه الدول ولو خطوة تذكر. معاهدة مجمدة ليست بذات فائدة، حتى أواخر القرن التاسع عشر حيث أصبحت المطامع الاستعمارية تتشكل بصورة أوضح وأوسع.
وإذا كان المغرب لم يسقط فريسة للاستعمار الفرنسي في أواخر هذا القرن، فلا يرجع السبب في ذلك إلا للموقف العظيم الذي وقفه آنذاك المتربع على العرش السلطان مولاي الحسن، هذا الملك الذي استطاع بحكمته وبعزيمته أن ينهض بالبلاد بعد كبوتها نهضة الشهم الكريم، وأن يحمي الاستقلال المغربي طول حياته بسياسته الرشيدة التي عرفت كيف تستغل تزاحم الدول على البلاد، وأن يكسب صداقة أغلب دول أوروبا واحترامها لشعبه وعرشه، فكان دائما يبعث الوفود إلى الحكومات الأوروبية لتتمكن عرى الصداقة بينها وبين المغرب، فمن ذاك إرساله للسيد محمد الزبيدي سفيرا وباشا إلى كل من فرنسا وبلجيكا وإيطاليا وإنجلترا، وأعطاه أموالا وهدايا فاخرة للعظماء وتأكيدها مع هذه الدول وتقرير ما عنده من الاعتناء بجانبهم.
ولقد خرج هذا السفير المذكور إلى فرنسا أولا، حيث استقبلته الحكومة المحلية هناك استقبالا باهرا فأكرمته بكامل الاعتبار والإجلال، وتلقى المارشال (مكماهون)، رئيس الجمهورية الفرنسية، ووزير الخارجية المسيو (دوك داكاز) الذي تفاوض معه بكل حفاوة ولطف.
ويقول المؤرخون إن دولة فرنسا هيأت له بعد سفره إلى بلجيكا قطارا خاصا وعربة تليق به وصحبه في ذلك خليفة وزير الخارجية والترجمان».
القنصل لامبير.. أول فرنسي استقبله المغرب قبل 367 عاما
العهدة هنا على وثائق الأرشيف الفرنسي. ففي سنة 1656، فكر الفرنسيون في إنشاء شركة تجارية مع عدد من الجزر. وكان المغرب من بين الجهات التي رُشحت لكي تُفتح فيها فروع لهذه الشركة. إذ إن الكاردينال الفرنسي «مازاران»، قام بتعيين قنصل خاص، ممثلا له لمفاتحة المغرب في هذا الموضوع بالذات، وهذا القنصل اسمه «لامبير».
وكان المؤرخ المغربي عبد الهادي التازي، أحد أوائل الذين اشتغلوا على الوثائق المتعلقة بهذا الملف بالذات. فقد نشر تحقيقا علميا، بناء على وثائق اطلع عليها من أرشيف المكتبة الوطنية الفرنسية، تتعلق بـ«الثغور المغربية المحتلة بين المواجهة المسلحة والتدخل الدبلوماسي».
ما علاقة الثغور المحتلة بإقامة فرع شركة فرنسية في المغرب؟
يجيب التازي عن هذا السؤال بالقول إن الفرنسيين فكروا في الوصول إلى هدفهم من خلال المسالك الدبلوماسية، لكنهم اشتغلوا بالموازاة معها على إثبات وجودهم عسكريا والسيطرة على كل المنافذ الممكنة، لضمان وصولهم إلى هدفهم، وهو إنشاء شركات تجارية في إفريقيا.
عندما فكر الفرنسيون في إقامة هذه الشركة الفرنسية في المغرب، كان وقتها السلطان المولى الرشيد يواجه الأطماع الفرنسية بكثير من الحذر.
إذ بعد المهمة التي جاء من أجلها القنصل «لامبير»، وهي مفاتحة المغرب في موضوع الشركة الفرنسية، جاء سفير خاص بعد ذلك بسنة، أي في عام 1666، وبالضبط في الخامس من أبريل، واسمه «رولاند فريجيس»، وكانت مهمته لقاء السلطان مولاي الرشيد وإبلاغه رسالة من ملك فرنسا.
وبدا من خلال المراسلات المسجلة، أن المبعوث «لامبير» لم ينجح فعليا في مهمته، لذلك جاء السفير الثاني في مهمة خاصة لكي يحاول الحصول على موافقة المغرب لفتح فروع لشركات تجارية فرنسية.
عندما وصل هذا السفير، صادفته مصاعب في الوصول إلى السلطان الذي كان يقيم وقتها في تازة. ولكي يظهر المولى الرشيد حفاوة استقبال للسفير، فقد بعث إليه ما يكفي من الخيول لكي يحملوا أثقاله إلى مدينة تازة ويستقبله السلطان فيها. وفعلا عرض عليه طلب ملك فرنسا، وأجابه، في شهر ماي – أي بعد مكوثه لأزيد من ثلاثة أسابيع في انتظار الرد المغربي- برسالة رسمية سمح فيها للشركات الفرنسية لكي تفتح فروعها في المغرب، وعاد بها السفير إلى باريس. ومن بين ما جاء فيها: «وبعد، فقد بلغنا كتابك وفهمنا ما فيه من طلبك، الأمن لمن أراد من رعاياك التجارة في بلادنا، فقد أعطينا الأمان لكل من أتى بلادنا ومن سيأتي من جهتك بقصد التجارة».
احتفظ المغاربة بنسخة من نص الرسالة التي ما زالت موجودة إلى اليوم في الأرشيف الرسمي الفرنسي، وقد سبق لمؤرخين مغاربة أن أشاروا إلى النسخة المغربية منها، خصوصا المؤرخ عبد الرحمن بن زيدان الذي اشتغل مطولا على أرشيف الدولة العلوية، ونوه بأهمية هذه الرسالة باعتبارها أقدم دليل على مساعي فرنسا للحصول على الموافقة المغربية لكي تفتح فروع شركاتها في المغرب.
كان هدف هذه الشركات تجاريا خالصا، ولم تكن لها أي خلفيات سياسية في البداية. وتشير المصادر التاريخية إلى أن كبار رجال الأعمال الفرنسيين وقتها كانوا شديدي النفوذ في دواليب الدولة الفرنسية، وكان لديهم تأثير كبير على الملك لويس الرابع عشر، لذلك استعملوا ثقلهم لكي يدافع الملك عن مصالحهم ويطلب من المغرب، أيام السلطان المولى الرشيد، ما بين سنتي 1665 و1666، أن يسمح لهم بممارسة تجارتهم في البلاد.
علماء وفقهاء مغاربة في قصر لويس 14
عندما فكر المغاربة في ضرورة التواصل مع فرنسا دبلوماسيا، لم يجد المولى إسماعيل، أول من فكر في الأمر، غير الفقهاء المحيطين به لكي يكونوا سفراء له إلى فرنسا في مهام خاصة.
وهؤلاء السفراء دخلوا التاريخ، لأن الفرنسيين أنفسهم اهتموا بشخصياتهم أكثر من اهتمامهم بالمهام التي جاؤوا من أجلها إلى فرنسا.
ورغم الغموض الذي يحيط بهذا الموضوع، نظرا إلى قدم الفترة التاريخية التي يعود إليها، إلا أن الدولة المغربية اهتمت كثيرا بهذه البعثات الأولى إلى فرنسا. وتُجمع مصادر مغربية على أن المغرب انتبه منذ البداية، إلى أن العلاقات مع فرنسا سوف يكون لها شأن في المستقبل، وسوف تؤثر على تاريخ المغرب.
وهنا، نورد مقتطفا من دراسة نُشرت سنة 1978، وتعود في الأصل إلى محاضرة ألقيت في جامعة القرويين، وسُجلت ونُشرت على شكل دراسة تاريخية في «دعوة الحق»، التي انفردت منذ وقت مبكر جدا، مع نهاية الخمسينيات تحديدا، بنشر دراسات من هذا النوع:
«ويرجع تاريخ العلاقات بين الدولتين إلى سنة 1533م، حيث كتب فرانسوا الأول، ملك فرنسا، رسالة إلى سلطان المغرب يطلب من جلالته فيها أن يحمي الرعايا الفرنسيين القاطنين بمدينة فاس. وقرر هنري الثالث إقامة قنصلية بالمدينة نفسها، لتتفاوض مع المخزن السلطاني، من أجل ضمان حرية رعاياه وتحرير رقابهم.
كما اهتم ريشليو، الوزير الفرنسي، ببيع المنتوجات الفرنسية وإطلاق سراح المسيحيين، بعقد اتفاقية مع المغرب قصد التخفيف من قيمة الضرائب المفروضة على الواردات الفرنسية.
ووقع مع فرنسا سنة 1631معاهدة سلام وأمن استمر مفعولها ما يزيد على العشرين سنة.
وفي العهد الإسماعيلي طلب السلطان من لويس الرابع عشر أن يبعث إلى جلالته بفنيين مساعدين ليعملوا على تنمية وتجهيز بعض المرافق الاقتصادية للبلاد، ولكن لويس الرابع عشر اعتذر عن تلبية الرغبة الملكية، لاشتغاله بالحروب الطاحنة التي كانت تدور رحاها بين بلاده وإسبانيا، فاقترح عليه جلالته أن يبعث إليه بجيش من خيالته، ليساعده على الانتصار في حروبه ضد الإسبان.
وفي أواخر القرن السادس عشر أبدى كل من العاهلين، ملك فرنسا وسلطان المملكة المغربية، رغبتهما في توقيع معاهدة تبادل الأسرى بين البلدين.
فعين السلطان عبد الله بن عائشة كسفير لجلالته لدى ملك فرسا للتفاوض في شأن إبرام هذه الاتفاقية، ولا يخفى أن ابن عائشة هذا كان من أمراء البحر الذين كانوا يضايقون في العصر الإسماعيلي السفن الفرنسية والإنجليزية، التي كانت تقترب من الشواطئ المغربية.
ونزل السفير صحبة أحد العلماء السيد أحمد سوسان والسيد محمد التوزيري، من قواد البحرية، في ميناء «بريست» في شهر نونبر من سنة 1698، وقد خصص للوفد المغربي استقبال حار. وبعد أيام استقبل من طرف لويس الرابع عشر وسلم السيد السفير إلى الملك الفرنسي أوراق اعتماده لدى جلالته، ورسالة خاصة من السلطان مولاي إسماعيل وعدة هدايا مغربية ثمينة.
ومكث السفير ابن عائشة خمسة أشهر في فرنسا، كان معجبا بإقامته بها وبزيارته إلى نوتردام وبالمرصد الفرنسي، الذي تسلم فيه رسالة من المنجم الفرنسي «كاسيتي» إلى علماء التنجيم بجامعة القرويين بفاس، كما أعجب السفير بقصور فرنسا ومتاحفها.
وعندما عاد السفير إلى المغرب، سلم كتابا خاصا من الملك لويس 14 إلى جلالة السلطان، وقدم له تقريرا مفصلا عن مهمته بفرنسا التي توجت بالنتائج الموجودة من ورائها.
وقد توجهت بعثة دبلوماسية أخرى إلى فرنسا، بقيادة السيد الطاهر فنيش، للتفاوض مع الحكومة الفرنسية في شأن الأسرى بين البلدين».
«السباع والنعام» هدايا المغرب للويس الرابع عشر
الموت وحده خطف المولى الرشيد، قبل أن يُبرم معه الفرنسيون اتفاقيات لكي يضمنوا سلامة تنقلهم بحرا في البحر المتوسط. إذ إنه في سنة 1672، أرسل لويس الرابع عشر إلى السلطان يطلب منه أن يهتم بمبعوث ملكي فرنسي اسمه «صامويل روي»، وكانت مهمته في المغرب، أن يفاوض لإطلاق سراح أسرى فرنسيين.
لكن ما إن وصل «روي» إلى المغرب حاملا معه الرسالة، حتى اكتشف أن السلطان كان يوجد في مراكش، وبعدها بأيام وصله خبر وفاة السلطان، قبل أن تصل الرسالة إليه.
وهكذا اضطر الفرنسيون إلى كتابة رسالة أخرى تحمل تاريخ يوم 13 غشت 1672، يهنئونه فيها بالجلوس على العرش، ويجددون فيها الطلب الذي جاء من أجله المبعوث الخاص «صامويل روي» إلى المغرب، وهو حل مشكل الأسرى الفرنسيين.
لكن توقعات الفرنسيين كلها قد خابت، وانتبهوا إلى أن تعامل المغرب بعد وفاة المولى الرشيد قد تغير جذريا، ولم يعد هناك مكان للسياسة القديمة التي تصب لصالح الشركات الفرنسية.
وبلغ الأمر إلى درجة أن فرنسا استعرضت قواتها العسكرية عمدا بالقرب من مدينة سلا، لكي يرى المغاربة مدى قوة الأسطول الفرنسي.
لكن الهدف الحقيقي من وراء إنزال البواخر الفرنسية قرب سلا، مرتين، الأولى في سنة 1680 والثانية بعدها بعام واحد، كان هو الرغبة في تسريع النظر في ملف الأسرى الفرنسيين. إذ إن البلاط الفرنسي لم ترقه «المماطلات» المغربية، وصدرت عنه يوم 28 مارس 1681، تعليمات إلى الأسطول الفرنسي الذي كان يشرف عليه مسؤول فرنسي اسمه «شاطورونو»، مفادها أن يطارد المجاهدين المغاربة الذين ينشطون في البحر، ويواصل محاصرة ميناء مدينة سلا.
كانت هذه أول أزمة بين المغرب وفرنسا، لكنها لم تنته أبدا بالحرب، بل على العكس تماما، تُوجت بعقد اتفاق مصالحة في مدينة المعمورة بتاريخ فاتح يوليوز 1681. ووقع عليها من الجانب المغربي السفير بن حدو، الذي كلفه المولى إسماعيل منذ بداية عهده بالسفر إلى فرنسا، وخلّد اسمه تاريخيا باعتباره من أوائل السفراء المغاربة الذين مثلوا المولى إسماعيل لدى لويس الرابع عشر بكل جبروته وقوته وشهرته في أوروبا. ومن الطرف الفرنسي كان «لوفيفر دولابار» ممثلا لفرنسا، ووقع الاثنان الاتفاق الذي كان يتضمن ستة عشر فصلا كاملة حررت باللغتين الفرنسية والإسبانية. حسب ما أكده المؤرخ عبد الهادي التازي، الذي كان أول من دقق في وثائق الاتفاقية واطلع على الأرشيف الخاص بها.
بعد هذا الانفراج أرسل المغرب مبعوثا خاصا إلى فرنسا اسمه الحاج تميم، حاملا معه خطابا ألقاه أمام لويس الرابع عشر في قصره بباريس، وقدم له هدايا من المغرب «كان من بينها بعض السباع والنعام». وكانت تلك الهدايا موضوع اهتمام الفرنسيين وكتبوا عنها مطولا، وشكل وصولها إلى فرنسا حدثا مهما، حتى أن الفرنسيين خرجوا إلى الشوارع لرؤية الأقفاص وهي تعبر إلى مقر حديقة قصر لويس الرابع عشر، بعد أن أنزلت من السفينة التي أوصلت السفير المغربي أولا إلى ميناء «بريست».
وكانت تلك الزيارة أول إشارة طمأنة إلى فرنسا بشأن تأمين المعابر البحرية، خصوصا البحر المتوسط والسواحل المغربية في المحيط الأطلسي، التي تعبر منها سفن فرنسا نحو إفريقيا.
رسالة ملكية من مكناس لتوبيخ فرنسا
«إن موارد المغرب وثروته هي من القوة، حيث تجعل المولى إسماعيل لا يعبأ ولا يكترث بأن يكون في حرب أو سلم مع فرنسا! إن مكاتب الملوك، يقول العاهل المغربي لا يكون فيها إلا كلام الصدق بلا كذب ولا التواء المعاني. فذلك نقص في حق الأمراء ما يرضاه أحد. ما جاءنا شركم ولا صلحكم في شيء!».
هذا المقتطف من كلام المولى إسماعيل إلى فرنسا يعود إلى تاريخ شتنبر 1699، وسبب كتابتها كان غضب السلطان المغربي من ضبابية الاتفاق مع فرنسا والتخلي عن بعض البنود السابقة.
كانت هذه أول مرة حاول فيها الفرنسيون ممارسة السياسة مع المولى إسماعيل والضغط، لكي يفوزوا بأكثر مما ضمنته لهم الاتفاقيات السابقة مع المغرب.
سبق للمولى إسماعيل أن طلب من الفرنسيين أن يرسلوا إليه المخطوطات المكتوبة باللغة العربية، والتي توجد في المكتبة الفرنسية.
وبعض هذه المخطوطات كانت تعود إلى عهد الدول التي تعاقبت على حكم المغرب قبل العلويين، سيما رسائل ملوك الدولة السعدية.
موقف المولى إسماعيل كان مبنيا على الأسرار التي حكاها له سفيره ابن عائشة فور عودته من فرنسا، إذ أخبره بمواصفات البلاط الملكي في باريس، وطباع الملك ومحيطه ونظرتهم إلى الأمور، بل وحتى الجوانب النفسية التي تحكم قراراتهم السياسية.
وبما أن المولى إسماعيل فطن إلى المساعي الفرنسية التي بدأت قبل عهده، خصوصا وأن المغرب سمح للسفن الفرنسية فعلا بأن تعبر بأمان من السواحل المغربية، فقد تعامل معهم بحزم شديد، سيما وأن المغرب حصل على صداقة مهمة مع كاتب فرنسي اسمع «جوردان»، كان يعمل مترجما لصالح المغرب، إلى درجة أنه عندما وُلد له ولد اختار له اسم «عبد الله»، وهو ما يعطي تلميحا إلى احتمال أنه اعتنق الإسلام، وتحول من الدفاع عن مصالح فرنسا إلى الدفاع عن مصلحة المغرب. وهذا الكاتب لعب دورا استشاريا كبيرا في تفسير مواقف فرنسا وسياساتها مع المغرب.
هذه الرسالة الصارمة من المولى إسماعيل كان لها مفعول كبير في رسم الخريطة السياسية للعلاقات مع فرنسا. ونظرا إلى أهميتها، فقد احتفظ المغرب بنسخة منها، وما زالت إلى اليوم موجودة في أرشيف الرسائل المخزنية.
وتعتبر هذه الرسالة لوحدها، أقوى رد مغربي رسمي على المطالب الفرنسية المتكررة في كل مرة بحيازة امتياز تجاري في المغرب على حساب شركات أجنبية أخرى، تضررت مصالحها كثيرا بسبب التقارب المغربي الفرنسي.
مشكل الأسرى الفرنسيين وأنشطة الجهاد البحري، كانا سبب إلحاح فرنسا على المغرب في كل مرة، وهو ما رأى فيه المولى إسماعيل مسا بسيادته، إلى درجة أنه أعطى مرة تعليماته لكي يتراجع المغرب عن اتفاقيات مع فرنسا لم يمض على توقيعها أكثر من عشر سنوات، وهو ما جعل الفرنسيين يفهمون سريعا أن الاتفاقيات مع المغرب لن تبقى مُلزمة، في حال ما فكر الفرنسيون في الضغط للحصول على امتيازات أكبر.





