الرأي

فلاسفة الطبيعة من الحقل الفرنسي

مع انفجار ظاهرة الإرهاب في المنطقة سمعنا عن إعدام 47 شخصا في السعودية مع مطلع عام 2016 وفي إيران 27 شخصا بتهم مماثلة، ثم إغلاق السفارات وتوقف الطيران بين السعودية وإيران، مع تخفيض المستوى الدبلوماسي في الإمارات مع طهران، في تسارع لاهث ومنذر بتفجر الوضع الساخن أصلا.
في مثل هذه الظروف اللاعقلانية يجب فهم الظاهرة الاجتماعية، كما حاول روسو الفرنسي فهمها، فالأمراض الاجتماعية تنتقل بوحدات فكرية كما تنتقل الأمراض البيولوجية بوحدات من فيروس وجرثوم، كما حصل معي وأنا غاطس في ثلوج كندا في درجة حرارة عشرين تحت الصفر.
ولد الناس أحرارا متساويين ولكنهم يرزحون في الأغلال في كل مكان، هكذا تكلم روسو.
ولد الفيلسوف الفرنسي (جان جاك روسو) عام 1712 في جنيف حين كانت أمه في محنة كبيرة فقد كانت تنزف على نحو خطير. والأطباء يعرفون هذه الظاهرة عندما يعجز الرحم عن التقلص بعد الولادة، وبعد ولادته بساعة ماتت. أما أبوه فكان منفياً من المدينة وهكذا تعلم الفلسفة من رحم المعاناة.
لمع هذا الرجل للطبيعة الحامية التي تميز بها، والكم الهائل من الأفكار الثورية التي قذفها إلى ساحة الفكر، فهو رأى أن ما يغير الإنسان هي الأفكار الاجتماعية والنفسية أكثر من الفيزياء والكيمياء، أو التأمل في قوانين البيولوجيا.
بكلمة ثانية، البيئة هي التي تصنع المجرم، والثقافة هي التي تورد الإرهابيين. ومعظم تراثه سبب التصدع في مجاري الاجتماع والسياسة والأنثروبولوجيا والتربية والدين؛ فهو كتب في السياسة بعنوان (مقالة في أصل الظلم) عام 1755 م، وفي التربية (أميل) عام 1762م، وفي علم الاجتماع (العقد الاجتماعي) الذي ذكر فيه «أن القانون هو ما سطر على القلوب أكثر منه ما كتب على الصفحات»، كما كتب مذكراته الشخصية وهي جداً ممتعة بعنوان (الاعترافات)، ونقل عنه عالم النفس السلوكي (سكينر) بإعجاب فكرته عن توليد السلوك عند الطفل، وهي تقنية القابلة، فمن المهم للطفل أن نجعله يتصرف كما نريد، ولكن أن يشعر أن هذا التصرف تدفق محض من إرادته، في الوقت الذي يخدم إرادتنا من حيث لا يشعر، كما تلد المرأة بقوتها وكبسها ولكن بإشراف القابلة.
وفي بداية حياته التمع اسمه مع المفكرين الفرنسيين المهمين مثل فولتير وديدرو صاحب الموسوعة وكذلك دالمبير، ولكنه اختلف بآرائه عنهم شيئاً فشيئاً، فقد رأوا فيها تطرفاً غير مقبول. مثل قوله أن المسرح مدرسة الرذيلة فكسب عداوة فولتير إلى الأبد، وأن المدنية سيئة، وعندما سئل أي الاثنين كان له الدور الأكبر في تقدم الإنسانية العلوم أم الفنون؟ كان جوابه أن كليهما عمل على تخريب الإنسان. ولذلك دعا إلى العودة إلى الطبيعة. وأجمل آرائه كانت في التربية حين نصح الأمهات بالالتصاق الجيد بأبنائهن، وأن يعيش الطفل في حضن أمه لفترة طويلة، فيكسب الرحمة والحنان واحترام الحياة والثقة بالعالم والمستقبل.
ومن أشد آرائه تطرفاً ما تبنته النظريات الفوضوية والشيوعية في نقض بنيان الدولة لأنها سبب كل فساد. وعندما عثر على صبي أفيرون الوحشي، وكان غلاماً قد أهمل وترك للغابة يعيش فيها، فاستطاع أن ينجو من الموت، وخرج قوياً كالحيوانات لا يعرف البرد والمطر والمرض؛ قال عنه روسو: انظروا إلى الطبيعة كيف تفعل بالإنسان؟ وانظروا إلى الحضارة ماذا تفعل بالإنسان؟ حينما تسلب منه كل مقاومة بدنية وكل فضيلة غريزية وكل نور فطري؟ فليس من المدنية والحضارة سوى إفساد الإنسان وتلويث البيئة والحروب وإفساد الصحة العامة.
وفي الواقع فإن قسماً من كلامه صحيح، ولكن ولادة المجتمع لم تكن برغبة من الإنسان بقدر الضرورة لذلك، ولولا المجتمع الفرنسي لم يتطور نفسه روسو إلى رتبة الفلاسفة بجدارة، ويكتب ما يكتب في التربية، ويصلنا هذا بعد موته بمئات السنوات.
ولد روسو عام 1712 في مدينة جنيف بسويسرا، ولم يكن ذلك الرجل الملتزم بعائلة وحياة مستقرة؛ بل عاش حياة بوهيمية ذكرها بالتفصيل في كتابه: الاعترافات. وأنا قرأت الكتاب فتعجبت من كثرة تنقله بين أحضان النساء بقدر سياحته في عالم الأفكار، إذ بقي يتنقل من حضن امرأة لأخرى وأنجب من الأولى (تيريز ليفاسير) خمسة أبناء غير شرعيين أودعهم جميعاً ملاجئ الأطفال. وقصته تذكر بالفيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي، كما جاءت في سيرته الذاتية، فعاشر نساء مختلفات، والتقط منهن اللسان، ولم يرتبط بزواج على الرغم من مناشدتهن، وبكى عليهن في شيخوخته، فهذا من جنون الفلاسفة.
مات روسو في نهاية حياته مكتئباً حزيناً بسبب نفور الناس من أفكاره من جهة، والاضطهاد السياسي من جهة ثانية، والأنظمة الشمولية تستل الروح وتقتل الأمة قتلا فلا يصبر عليها المفكرون، ويرحلون تاركين كل شيء خلف ظهورهم ولا يلتفت منهم أحد، ويتركون المجتمع لمصرع أكيد، وهذا الذي كان من خبر الثورة الفرنسية، التي حملت رؤوس الطبقة الأرستقراطية إلى المقصلة فطارت طيرانا، أشبه بمكان قطع رقاب الدجاج، وقد مات روسو عام 1778 قبل اندلاع الثورة بـ 11 عاماً فكان لها نذيرا وبشيرا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى