شوف تشوف

الرأي

في أن الديمقراطية ليست فصلا بين السلطات

عبد الإله بلقزيز

الاعتقاد السائد لدى من يتمسكون بمبدأ الفصل بين السلطات – ونحن ممن يتمسك به – أن نقض هذا المبدأ يسود، حصرا، في الأنظمة الطغيانية؛ الاستبدادية، والديكتاتورية، والفاشية، والأوليغارشية، والأوتوقراطية، والكلانية (التوتاليتارية)، وأن النظام السياسي الديمقراطي – السائد في الغرب – وحده الذي تُوفر هندسته السياسية مساحة لحاكمية مبدأ الفصل بين السلطات فيه.
الاعتقاد هذا خاطئ، ولا يقيم التمييز بين مبدأي الفصل بين السلط والتمثيلية. قد يصح أن يُقال إن الديمقراطية هي شكل الحكم الأرقى في تحقيق التمثيلية السياسية الأوسع، في مجتمع سياسي ما، وفي التمكين لأوسع فرص المشاركة السياسية للمواطنين في إدارة الشأن العام؛ ففي الديمقراطيات تتمتع الغالبية بالحق في إدارة سلطة الدولة ببرنامج عمل لقي ترحيبا وموافقة من قبل غالبية الناخبين. وحتى بمعزل عما وُجه من نقد حاد – ومشروع – لمفهوم الغالبية، ولمماهاته المزعومة مع مقولة غالبية الشعب (= حيث لا تصل كتلة المشاركين في الاقتراع، عادة، إلى نسبة نصف من يحق لهم الاقتراع)، إلا أنها تظل، في المطاف الأخير، الأوسع تمثيلية، خاصة بالنظر إلى فشل نموذج الديمقراطية المباشرة («الاشتراكي»، المجالسي) في مزاحمة نموذج الديمقراطية التمثيلية ذي الأصول الليبرالية. غير أن هذا شيء والفصل شيء آخر تماما، حتى لا نقول إنهما كثيرا ما يتعارضان أو، على الأقل، ما لا يتوافقان ويستقيمان معا في البناء والاشتغال.
يقضي مبدأ الفصل بين السلط – وهو أميز مبدأ في الدولة الحديثة في نظر مونتسكيو- بعدم جواز الجمع بين سلطتين من السلطات الثلاث في الدولة في الوقت عينه. إذا كان مفهوما سوء مثل ذلك الجمع في حالتي السلطة القضائية والسلطة التنفيذية، لأن فيه تقويضا لاستقلالية القضاء وتسخيرا له لخدمة سلطة أخرى، فإنه قلما يقع الانتباه إلى مخاطر مثل ذلك الجمع في حالتي السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية في الدولة الحديثة. والحق أنه إذا كان الجمع بينهما مألوفا ومعروفا في النظام القديم، كما في الأنظمة الطغيانية المعاصرة، فإن صورة من ذلك الجمع تعيد إنتاج نفسها اليوم، بل منذ قرون، في إطار النظام الديمقراطي من دون أن ينصرف الانتباه النقدي إليها.
بأي معنى ينقض النظام الديمقراطي مبدأ الفصل بين السلطات، أو فيم يتجلى نقضه لها؟
القاعدة الأساس التي عليها مبنى الديمقراطية هي أن شرعية أي سلطة تستمد، بالضرورة، من إرادة الشعب (= مصدر السلطة) المعبر عنها في الاقتراع. لا أحد يحكم، أو يدير سلطة الدولة، إلا من أنابه الشعب صاحب السلطة لإدارتها نيابة عنه. مبدأ التمثيل، هنا، مركزي لفك شيفرة هذا النمط من الأنظمة المسمى ديمقراطية. ولأن القاعدة ما قد عَلِمت، فإن المجلس الذي تكونه عملية الانتخابات هو الرحم الذي تخرج منه السلطة التنفيذية أو، قل، إن الغالبية فيه هي التي تحتاز الحق في تأليف الحكومة وتنفيذ السياسات التي يشرعها المشرعون ويصادقون عليها بعد مناقشتها. من هنا تبدأ المشكلة في ما نحن فيه: الغالبية التي تسيطر على جهاز السلطة التشريعية هي عينها التي تسيطر على جهاز السلطة التنفيذية (ما دامت هي من يملك الحق الدستوري في تشكيل الحكومة). في هذا ضرب موجع لمبدأ الفصل بين السلط، يكفي لكي يحتكر فريق سياسي في المجتمع السلطةَ باسم «الإرادة الشعبية»! أدرك الفلاسفة والمفكرون هذه الورطة، مبكرا، منذ وصف أليكسي دو توكڤيل النظام الفرنسي، بعد الثورة، باسم نظام «الاستبداد الديمقراطي»، ومنذ وصف جون ستيوارت مِل النظام الديمقراطي بنظام «طغيان الغالبية»: التي تصادر السلطة من صاحبها: الشعب لتفرض إرادتها، هي، باسمه.
على أن هذا العطب في النظام الديمقراطي- وهو بنيوي فيه- لم يمنع الديمقراطيات الغربية من مغالبته وتصحيحه، تصحيحا نسبيا، للحد من وطأة تناقضاته ومشكلاته، وضخ القدر الضروري من التوازن فيه. من ذلك، مثلا، ما أقدم عليه بعضها، دستوريا، من توزيع للسلطة التنفيذية بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة (في أنظمة رئاسية مثل النظام الفرنسي)، أو من إجراء انتخابات نصفية للبرلمان، أو من توزيع للسلطة بين رئيس الدولة والبرلمان (مثل النظام الأمريكي)، أو من حفظ مسافة زمنية (عامان على الأقل) بين انتخابات الرئاسة وانتخابات البرلمان. وهذه كلها، وإن كانت تحاول أن تتفادى تجميع السلطات في يد واحدة، في الوقت عينه، لا توفر حلا لمشكلة هندسة سياسية تولي لمبدأ التمثيلية أهمية وأولوية على مبدأ الفصل بين السلطات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى