الرأي

في فكرة التّقدّم

عبد الإله بلقزيز

مثلما أتت فكرةُ التّقدُّم تمثّل منطلقًا لسيرورةٍ متّصلةِ الحلقات من وقائع التحوُّل، في العالم، شمِلت ميادينَ الفكر والسياسة والاقتصاد والاجتماع، بدءًا من القرن التّاسع عشر في أوروبا، أتت ثمرةً تكثِّف تحوّلات سابقة أفضت إليها كفكرةٍ عليا وناظمة كانت أوروبا نفسُها مسرحًا لها. ويمكن، من باب التّمثيل فقط، الإشارة السريعة إلى أظْهر تلك التّحوّلات، في القرنين السّابع عشر والثّامن عشر، من تلك التي أنجبت معتَقد التّقدّم في الوعي الإنسانيّ:
الثّورة العلميّة، التي شهدت عليها ميادين الفلك والميكانيكا والهندسة والفيزياء، كانت أوّل تلك التحوُّلات؛ من حيث كشفت عن الإمكانيّات المذهلة التي يتيحُها تطبيق نتائج العلم ونظريّاته في الاقتصاد والاجتماع والحياة العامّة، والتي تَعِد بتحقيق تقدُّمٍ نوعيّ في الحياة الإنسانيّة، وتمكين البشريّة من تسخير أفضل للطّبيعة ومواردها.
وقد أتتِ الثّورةُ الصّناعيّة، في الأعقاب، تُشكّل مصداقًا للحقيقة الأولى بمقدار ما كانت فتوحاتُها ترجمةً ماديّةً لنتائج العلوم في حقل الإنتاج، في الوقت عينِه الذي حملَتْ مكتسباتُها وعودًا بتطوير شروط الحياة، وتغطية الحاجات الإنسانيّة، وتذليل ما كان صعبًا وأَمْكَنَةِ ما كان في حكم المستحيل.
ولقد اقترنتِ الثّورتان معًا بثورةٍ رديف شهِد عليها مجال العلاقة بين السّياسة والدّين، وتجلّت في ما عُرِف باسم الدَّنْيوة Sécularisation (العَلْمَنة أو الّلأْكَيَة Laïcisation )؛ أي المُمَايَزَة بين المجال السّياسيّ والمجال الدّينيّ. وإذا كانت هذه الدّنيوة قد أعادت الكنيسة إلى ميدانها الرّوحي وأخرجتِ السياسة من حيّز أملاكها، فهي حرّرت الدّولة والسّياسة من أيّ قيدٍ سوى الذي تتوافقُ الجماعةُ السّياسيّة على وضعه عقدًا ناظمًا لها و، بالتّالي، سمحت بتقدّم المجال السّياسيّ.
جَرَت الثّوراتُ الثّلاث تلك في حِضن الدّولة الوطنيّة بمقدار ما أطلقت نتائجَها في كيّان الدّولة تلك: مزيدًا من البَنْيَنَة والعَقْلَنَة والمَأسَسَة، ومزيدًا من تمكينها من الموارد الماديّة ومن عناصر القوّة القابلة للتّسخير في التّنميّة وتحقيق التّقدّم.
لم يكنِ القرن التّاسع عشر قد هَلّ حتّى كانت فكرةُ التّقدّم قد صارت معتقَدًا جمعيًّا تقاسَمَتْه تيّارات إيديولوجيّة وفكريّة مختلفة، خاصّةً التياران الرّئيسان: اللّيبراليّ والاشتراكيّ. وجد الأوّل في الرّأسماليّة صهوته التي امتطاها في مشروعه الكونيّ لغزو الطبيعة ثمّ لغزو العالم؛ ووجد الثاني في طبقة الپروليتاريا – التي أنجبتها الصّناعة – قوّةً اجتماعيّة عوّل عليها لإعادة بناء عالمٍ من التّقدّم جديدٍ وخالٍ من الاستغلال. والتّيارات وإنِ اختلفا إيديولوجيًّا وتصارعا طويلاً، فقد نهلا من نفس النَّبع المعرفيّ الذي تولّدت منه فكرةُ التّقدّم: من النّزعة التّطوُّرانيّة Evolutionniste ذات الجذور الداّروينيّة.
تاريخ القرنين الماضيّين وهذين العقدين من القرن الحالي هو، بالتّعريف، تاريخ التّقدُّم بما هو مشروعٌ متحقّق في ميادين الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسّياسيّة والعلميّة والتِّقانيّة، وتتمتّع بثمراته المجتمعات الإنسانيّة في نواحي الأرض كافّة. غير أنّ فرص الاستفادة من مكتسبات التّقدّم تتفاوت، في العالم، بتفاوُت الذرة على اكتساب أدوات إنتاجه. والقدرةُ هذه غيرُ متاحة للأمم والدّول جميعها وإنْ كان الجامع بينها الاشتراكُ في حيازة منتوجاته. وبيانُ ذلك أنّ الفارق كبير بين من يُنتج التّقدُّم ومن يكتفي منه بمجرّد استهلاكه. إنّه الفارق بين البلدان المنتِجة للعلم والتِّقانة والصّناعة؛ وهي –عمومًا – بلدان الغرب والشرق الآسيويّ (الصّناعيّ)، وبلدان الجنوب التي ما زالت كثرتُها الكاثرة أسواقًا لاستقبال منتوجات التّقدّم الواردة من المصدر. ولا نعني بهذه المنتوجات الصّناعيّة والتّكنولوجيّة فحسب، بل الأفكار والمؤسّسات والنُّظم السّياسيّة والإداريّة والنّظريّات العلميّة والرّؤى والبرامج، أي كلّ ما يدخل ضمن عُدّة مشروع التّقدّم، وما كان له الأثرُ الكبير في نقْـله من حيّز الفكرة النّظريّة إلى رحاب الواقع الماديّ.
وما كانت فكرةُ التّقدّم بعيدة عن وعي النّخب العربيّة، الفكريّة والسّياسيّة؛ بل هي تبلورت منذ وقتٍ مبكّرٍ من القرن التّاسع عشر. هي، من وجهٍ، مثّلتْ إشكاليّةً رئيسةً في التّفكير، وتمخّض من التّفكير فيها تراثٌ نهضويّ وأنواريّ عربيّ كبير، لم تنقطع حلْقاتُه التّراكميّة منذ ذلك العهد؛ وهي، من جهة ثانية، الفكرة التي خِيض في تحقيقها الماديّ منذ المشروع التّأسيسيّ لمحمّد عليّ باشا في مصر، وما زال يخاضُ فيها – بصُورٍ مختلفة – وإن أصاب تحقيقَها كَبْوٌ وتكرار إخفاقات. ومع ذلك، لا مندوحة عن القول إنّها وحدها السّبيل إلى التّاريخيّة؛ إلى الخروج من حقبة التّأخُّر والتبعيّة وعقليّة الرّيع والاستهلاك إلى ثقافة الإنتاج والبناء والتنميّة. وعلى ذلك، ما من بدٍّ من العودة، باستمرار، إلى أساسيّات التّقدّم، إلى ألِفبائيّته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى