شوف تشوف

الرأي

قانون الشجر والبشر .. تقليم الأشجار وتطعيم الأفكار

خالص جلبي
حسب آينشتاين فإن كشف الحقيقة مرة واحدة غير كاف، فالحقيقة تشبه تمثال الرخام المنصوب في صحراء تعصف بها رمال لا ترحم، والأيادي النشيطة التي تنفض عنه الغبار دوما هي التي تحتفظ بلمعانه تحت أشعة الشمس ونور القمر. والأفكار تشبه الأشجار نموا وذبولا، حياة وموتا، وكما تقلم الأغصان ويقص الشجر فتزداد نموا، كذلك تنمو الأفكار فتصبح شجرة باسقة طلعها هضيم، ويكتب لها الازدهار والقوة من خلال الصقل مرة بعد مرة.
وعليه فيجب دوما تطوير الأفكار دوما وتعهدها أبد الدهر، مثل النباتات وتنميتها بسماد ونور وماء، وإعادة النظر فيها تنقيحا وتصحيحا وتكبيرا وتفخيما، وتمريرها في كل مرة بفلترة العقل النقدي؛ فالعلم ينمو بآليتي الحذف والإضافة وكذلك الأفكار.
في مدينة مراكش وقف الأخ المجذوبي وهو يلوح بيده بكتابي القديم (في النقد الذاتي)، ثم قال: لم يصدر لك كتاب بعده؟
والرجل عذرته لعدم متابعته ما أكتب، ولكن أجبته باختصار: إن ديكارت يقول عن نفسه إنه بعد أن كتب كتابه في المقال على المنهج، قضى بقية حياته في تطبيق هذا المنهج، فأنا أحاول ترسيم وتوسيع هذا الطريق السريع الذي فتحته للنقد الذاتي، فلا يكفي مخطط الطريق، بل لا بد من بنائه فتمشي عليه السيارات والحافلات!
نحن نعلم أن الشجرة كائن حي، وكذلك الأفكار فهي كائنات حية، وأهم ميزة على الإطلاق في التمييز بين الحي والميت هي التكاثر، وكذلك الأفكار فهي تنمو وتتكاثر.
والله وصف الكلمة الطيبة بأنها تشبه الشجرة الطيبة تنتج ثمراتها كل حين بإذن ربها، كما وصف الرب الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة.
وهذا يعني أن الكلمة الطيبة تتكاثر وتكبر، فتصبح شجرة تأوي إليها الطيور، وتعطي ثمراتها في كل حين بإذن ربها.
كذلك فإن الكلمة الخبيثة تتكاثر وتصبح شجرة كبيرة تغري وتغوي وتضل وتشقي، بأن الشر والخير صنوان متشابهان في القوة والإثمار، ولكن مصير الشجرتين مختلف؛ فالكلمة الطيبة تدوم، والكلمة الخبيثة تجتث من فوق الأرض ما لها من قرار.
وهذا يفسر ظهور الكثير من الأفكار الشريرة وانتشارها، مثل الأمراض المدمرة والأوبئة القاتلة. هكذا ظهرت الفاشية المجرمة والنازية العنصرية والبعثية العبثية والعجل الناصري وعبدة الأصنام، الذي كان له خوار مثل خوار عجل السامري.
وقديما كان ينتشر الطاعون فيحصد نصف أهل المدن ثم ينصرف؛ فلا يعلم أحد من أين جاء ولا كيف ذهب؟
وأمراض الأفكار هكذا مثلما حصل مع فكر الخوارج، الذي يحصد من حين لآخر مثل طواعين العصور الوسطى.
والأمراض تنتشر بوحدات خاصة، وكذلك الأمراض الاجتماعية.
و(الوحدات الإمراضية) في الجسم هي الجراثيم والفيروسات، والوحدات الإمراضية في الأمراض الاجتماعية هي (الأفكار).
ومثلا فمرض الكوليرا خلفه ضمات الهيضة، ومرض السل عصيات السل. ومرض العنف خلفه جراثيم (الكراهية والتعصب). وكما كان لأمراض البدن تظاهرات من أعراض وعلامات وسير ووحدات إمراضية ووسائل تشخيصية وعلاج، كذلك الحال في الأمراض الاجتماعية، ولكن بكل أسف لم يتطور (الطب الاجتماعي) بقدر تطور الطب العضوي البدني.
والكائن الحي يتصف بالتكاثر، والصخرة جماد لا يتكاثر. والفيروس هو حلقة الوصل وجسر العبور بين الحياة والموت؛ فهو يتبلور مثل الملح، وهو يتكاثر مثل الخلايا، ولكن حتى يتكاثر لا بد له من خلية يتسرب إليها، وهذا هو وجه الخطر في انتشار الفيروس، أي اعتماده على الخلايا الحية التي تعيد إنتاجه.
وأخطر الفيروسات هي العكوسة القلوبة ما يعرف بالرتيروفيروس، مثل فيروس الإيدز، فهذا الفيروس يتسلل إلى الكود الوراثي في نواة الخلية؛ فيصبح قطعة منها، وتعيد الخلية إنتاجه وكأنها تعيد إنتاج نفسها، وهي تنتج في الواقع وسائل دمارها وسلاح خرابها، كما هو الحال في الأنظمة الشمولية التي يتسرب إلى أجهزة الأمن فيها شرار الخلق؛ فيدمرونها ولو بعد حين.
وفي حديقتي شجرة تين زرعتها بنفسي فخرجت بفرعين منذ البداية، ونصحتني زوجتي بقص أحدهما فلم أفعل، وليتني فعلت إذا لاستوت على جذع واحد، وهو ما اضطررت إليه لاحقا، ولكن بشكل متأخر، وأن يفعل الأمر ولو متأخرا خير من أن لا يفعل.
وهذه الشجرة تذكرني بالحياة؛ ففي الشتاء تتساقط الأوراق، وفي الربيع تدب فيها الحياة؛ فتعطيني أملا بتجدد الحياة، وأن الموت لا يزيد عن كسوف مؤقت.
وعندما زرعت بعض الأشجار في حديقتي، ولاحظت أنها تأخرت في النمو، تعجبت حتى اكتشفت أنها كانت تؤسس جذورها تحت الأرض، قبل أن تبزغ فوق الأرض بفروع خضراء زينة للناظرين.
وكما كان تقليم الشجر مفيدا فيدفع الحياة في اتجاه جديد، كذلك الحال في تقليم الأفكار، وأفكارنا تكبر مثل أولادنا، والفكرة الجيدة تنمو مثل الكائن الحي دوما بالتقليم والتشذيب.
وأنا أعكف منذ عشرات السنوات على بعض الأفكار؛ فأعيد صقلها كل مرة لأجدها زادت تألقا وبهاء ونموا.
ومنها فكرة اللاعنف حيث اكتشف كل يوم أنها ليست مجرد أفكار، بل عالم قائم بذاته، وجغرافيا مختلفة، وكوكب ينزل الفكر على سطحه بإحداثيات كونية مختلفة، مثل الضغط والحرارة وتوزع الغازات.
والفكرة الجيدة يجب أن يعتني بها الإنسان من وقت لآخر فيعيد اختبارها وترتيبها وترابطها مع نظام الفكر، ومع الوقت تتشكل شبكة ونظام معرفي في وحدة فكرية جديدة.
والكتاب الجيد يجب أن نعيد قراءته مرات ومرات. وهذه الرحلة لا نهاية لها؛ لأنها حياة تدوم وتكبر. وسبحان الحي الذي لا يموت فتوكل عليه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى