الرئيسية

قدس الإسلام – 4

القدس.. ذاكرة الجرح الوضيء

لعله من المفيد أن نستحضر – خلال العهد الروماني- طبيعة العلاقة التي جمعت بين المسيح عيسى عليه السلام واليهود، إذ يرى المؤرخون المسيحيون أن المسيح عيسى عليه السلام ما فتئ يدعوهم إلى الإيمان بالتعاليم المسيحية إلا أنهم رفضوا ذلك كلية، فاضطهدوه وأساؤوا معاملته، فتنبأ بخراب أورشليم/القدس وتشتيتهم جراء صنيعهم ذلك، وهو ما يستشف من قوله عليه السلام: «هو ذا بيتكم يترك لكم خرابا» (متى: 24، لوقا: 21)، وقوله أيضا: «الحق أقول لكم إنه لا يترك ههنا حجر على حجر لا ينقض»، والظاهر أن هذه النبوءة تحققت من خلال تدمير الرومان للمدينة سنة 70 م وطردهم لليهود منها.

العهدة العمرية
بسم الله الرحمن الرحيم، يقول تعالى:
«سبحان الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» (سورة الإسراء، الآية: 1).
إن دلالة هذه الآية الكريمة بمنطوقها ومفهومها، تثبت أن الرسول (ص) أول من فتح مدينة القدس من المسلمين، إنه فتح رباني مستلهم من آية الإسراء والمعراج، فمن تلك البقعة المقدسة بأرض فلسطين عُرج بالرسول الكريم إلى السماوات العلى، وما الفتح العمري (نسبة للأمير المؤمنين عمر بن الخطاب) إلا استكمال للفتح المحمدي (نسبة إلى النبي محمد (ص)).
في إطار الفتوحات الإسلامية، وجه عمر بن الخطاب الخليفة الثاني لرسول الله (ص) أبا عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد لفتح القدس، وبعد أن تمت محاصرتها من قبل جيش المسلمين تم توجيه إنذار لبطريركها المسمى «صفرونيوس»Sophronius»، مخيرين إياه بين الإسلام أو تسليم المدينة مع دفع الجزية أو القتال، فاختار المسيحيون المقاومة فنشب القتال عدة شهور إلى أن بدأت مقاومتهم تضعف، فما كان من صفرونيوس سوى الاستسلام، لكنه اشترط أن يسلم المدينة (القدس) إلى أمير المؤمنين عمر شخصيا، فشاور الخليفة عمر رضي الله عنه الصحابة في الأمر، فأشار عليه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وقال: «إني أرى أنك إن سرت إليهم فتح الله هذه المدينة على يدك وكان في مسيرك الأجر العظيم»، فعمل عمر بمشورته، فقصد بيت المقدس بمعية خادمه وتناوبا على ركوب ناقة طيلة تلك الرحلة الشاقة، وعندما شارفا القدس تطلع إليهما صفرونيوس وبطاركته، وحينما سألوا عن هوية الرجلين أجابهم المسلمون: «إنه عمر بن الخطاب وخادمه»، فسأل صفرونيوس: «أيهما عمر؟» فأشاروا إلى ذلك الواقف على قدميه إذ كان خادمه ممتطيا الناقة، فتملكهم الذهول والعجب، وقيل لأن ذلك مذكور في كتبهم، ومهما يكن من أمر فهذا الموقف ينضاف إلى مواقف عمر بن الخطاب التي تشي بعظمة الدين الإسلامي، المنبني أساسا على الرحمة والعدل والمساواة. لله درك يا عمر !
لما تسلم عمر مفاتيح القدس من البطريرك صفرونيوس خطب في الجموع المحتشدة من سكان القدس قائلا: «يا أهل إيلياء، لكم ما لنا وعليكم ما علينا»، وعند تفقده لكنيسة القيامة أدركته الصلاة وهو فيها، فخرج منها وفرش عباءته وصلى، ليلا يتخذ المسلمون ذلك من بعده سُنة، وفي الوقت نفسه كان ذلك منه بمثابة توقير للمقدسات المسيحية. وحيث صلى عمر رضي الله بني المسجد العمري (الموجود حاليا).
ترسم «العهدة العمرية» التي كتبها عمر للبطريرك صفرونيوس أبعاد العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، انطلاقا من مبادئ الإسلام الداعية للسلم والتسامح، لننصت:
«هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم سقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقص منها، ولا من حيزها ولا من صلبهم، ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم من اليهود. وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله من الروم ويخلي بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض، فمن شاء منهم قعد، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم ومن شاء رجع إلى أهله، لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين، إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية، شهد على ذلك كتب وحضر سنة 15 هـ عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان» (الطبري: تاريخ الطبري).

الحفاظ على ممتلكات المسيحيين
يستفاد من نص «العهد العمري» أن المسلمين التزموا التزاما صريحا بالمحافظة على عقيدة وأمن وممتلكات مسيحيي القدس، باعتبارهم من أهل الذمة الذين يوجب لهم الإسلام الحقوق المذكورة، مقابل دفع الجزية. أما إشارة «ولا يسكن معهم أحد من اليهود ولا يضار منهم أحد» فتدل على العلاقة الملتبسة التي كانت تجمع اليهود بكل الأقوام والشعوب التي سكنت القدس، وذلك بسبب من نزوعاتهم العدوانية وإثارتهم للقلاقل والفتن العرقية والسياسية على مدار التاريخ.
هكذا نجح المسلمون في إرساء دعائم حكم بالقدس، قائم على العدل والتسامح، يشهد على ذلك النصارى أنفسهم، فهذا الكاتب توماس المرجي ينقل قولة دالة لأحد البطاركة جاء فيها: «إن العرب الذين مكنهم الرب من السيطرة على جزء كبير من العالم يعاملوننا معاملة حسنة، وأنهم ليسوا بأعداء للنصرانية، بل يمتدحون ملتنا ويوقرون كهنتنا وقديسينا ويمدون يد المعونة إلى كنائسنا وأديرتنا». لقد ازدهرت مدينة القدس بفضل موقعها في وسط الدولة الإسلامية وصارت لها أهمية تجارية، وتزايد عدد سكانها من العرب المسيحيين والمسلمين في مقابل هجرة عدد من سكانها اليونانيين وخلوها من العنصر اليهودي آنذاك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى