شوف تشوف

الرأيالرئيسيةمجتمع

كارثة المياه في الجديدة

 

مقالات ذات صلة

 

بقلم: خالص جلبي

 

 

استقبلني السيد بوشعيب في مدينة الجديدة وقد وضع يده على خاصرته. قال لي: أنت طبيب والبول عندي بدأ في التغير بين حرقة ودم وعسرة، فهل حالتي خطيرة؟ تذكرت نكتة الطبيب الذي قال لأحد زبائنه: اطمئن صحتك جيدة، ولكن لا أنصحك بالعيش.. قصة السيد بوشعيب ليست الوحيدة، وأنا أرى تزاحم المصحات من حولي تكتب مراكز تصفية الكلى.. وأنا طبيب تخصصت أربع مرات، أولا في الطب، ثم ثانيا في الجراحة في ألمانيا، وأتممتها بجراحة الأوعية الدموية، ثم معالجة مرضى الفشل الكلوي على نحو خاص، حيث نضع لهم قساطر (Catheter) للغسيل الكلوي، أو نقوم بوصلات بين الوريد والشريان في الرسغ، ما نسميها نحن الأطباء الفستولا (A-V-F). هذه التقنية المزدوجة، خاصة لمرضى الفشل الكلوي المزمن، حيث تهدد حياتهم، كما هي في قصة أزبال مدينة الجديدة التي تحدثت عنها بعد كارثة ألف حفرة وحفرة، فالكلية جهاز مدهش تحوي كل كلية مليون وحدة تصفية من خلال الدم الذي يعبرها بمعدل 1800 لتر من الدم كل 24 ساعة، لتقوم بطرح حوالي لتر ونصف لتر من البول. الكلية الرائعة هي مثل البلديات النشيطة التي تحرص على نظافة البدن من الأدران، كما هو حال الأزبال في المدن. فإن قصرت اختنق البدن بالأزبال الداخلية، وإذا قفزت مادة الكرياتينين والبولينا وعنصر البوتاسيوم كان معناه ناقوس الخطر بالموت السريع، ومنه وجب معالجة الأمر على وجه السرعة؛ فإن كان القصور حادا قمنا بتركيب القسطرة المؤقتة، وإن كان الفشل مزمنا قمنا بالعمل المزدوج بين القسطرة السريعة المؤقتة، والقيام بعملية جراحية لوصل الوريد بالشريان في الرسغ غالبا؛ فإن تخربت الأوردة بفعل فرط الاستخدام، لجأنا إلى الطرف المقابل أو العضد، أو حتى تركيب شريان صناعي في الذراع، وهي عمليات كانت يومية لنا.

والآن ما معنى هذا الاسترسال الطبي؟ اليوم كعادتي قمت بأخذ «دوش»، ولكنني أيضا كعادتي أتفقد ما يسميه المغاربة («الروبيني»، أي صنبور الماء)، وكما توقعت امتلأ كفي بمخلفات بألوان شتى من بلورات زرقاء وصفراء وبيضاء. ناديت على زوجتي المغربية وقلت لها: انظري إلى هذا البلاء من مياه هذه المدينة! أتذكر جيدا حينما سكنت في الجديدة وكنا نملأ الماء المغلي، ثم نضع أكياس الشاي فيتحول إلى لون القطران الزفتي («غودرون» بتعبير المغاربة) لم أفهم، ففي كندا نرى أمامنا اللون الخمري الجميل للشاي، فلماذا هذا اللون القاتم؟ عرفنا السر. الماء في مدينة الجديدة مشحون بأكداس وبقايا ما يسمونه «الكالكير»، أي الأملاح المترسبة، مما يعني الطريق إلى هاوية القصور الكلوي، كما شكى لي بوشعيب من الجديدة. قمت بعمل تأسيسي إنقاذا لحياتي وزوجتي والكليتين، وهو وضع نظام تصفية من الماء بكلفة ليست قليلة بثلاث فلاتر، وفوقها فلتر رابع وهو وعاء خاص أتيت به من كندا من نوع (بريتا Brita)، وفيه فلاتر خاصة تعطيك الألوان بضغط الأصبع، فإن بقيت خضراء معناه السلامة، وإن انقلبت إلى حمراء كانت النذير المبين أن تبدل، وهي في العادة تصمد عدة أشهر، وهكذا أحضرت معي عشر فلاتر فوق الفلاتر الثلاثية تحت المغسلة العادية في المطبخ («اللافابو» بتعبير المغاربة)، وبذلك أشرب الماء مفلترا أربع مرات، وهي نصيحتي لكل ساكن في الجديدة.

في برنامج «لم أكن لأنجو» رأيت مشهدا لأناس ضلوا في البحر، فشربوا منه، فدخلوا في هذيان فانتحروا. معنى الفلاتر هو كمية الأيونات الصالحة للشرب. عندي في كندا لا أحتاج إلى كل هذا التقنية، فضلا عن إصلاح النظام المائي كل ثلاثة أيام. صدقوني، كمية الخبراء («البلومبي» بتعبير المغاربة) أصبحوا أصدقاء بيتي، مع نفقات مئات الدراهم في كل زيارة بين صنبور انفجر، وآخر شد وانسد، وثالث أصيب بجلطة (حشوة من كالكير)، كما يحدث في صدمات القلب والموت.

صديقي عبد اللطيف جبرون شكى لي قصة والده مع القصور الكلوي وماذا يتصرف؟ كتبت له استشارتي وقلت له بأن يطلع طبيبه عليها، كان مصير استشارتي صندوق القمامة؛ فلم يكلف الزميل الهمام الاهتمام بما كتب الاختصاصي الرباعي مثلي. أعرف الأطباء جيدا فالكثير منهم لا ينظر إلى وجه المريض، بل جيبه. في مراكش راجعت طبيبا صغير السن لاستشارة، فسحبني إلى غرفة صغيرة وبدأ يلعب في الصفن، وطلب مني 400 درهم مقابل رؤية أربع دقائق، ولم آته لفحص، بل لرأي.   

أرجع إلى الكارثة الثلاثية في مدينة الجديدة، بعد كارثة الحفر والأزبال، الآن مع «كالكير الروبينيات»، وإن كان القوم قد نشطت مفاصلهم فرأيت بعض الشوارع قد استقامت، خاصة تلك التي تخدم علية القوم لينشطوا في «مازاغان» وما أدراك ما «مازاغان»؟ أحيانا ونحن نتعرج مثل الأفعى تفاديا لتلة مرتفعة وهبطة مفاجئة في طريق جبران خليل جبران وهي حيوية جدا تمشي من مركز مرجان إلى البحر، وأقول: أين عيناك يا جبران لترى الإساءة إليك!

أنا رجل أتنقل بين مونتريال والجديدة، بين كندا والمغرب، فأحزن لما أراه في مدينة الجديدة، لاكتشف كارثة بعد كارثة، وكأن لا وجود لبلديات.. ثم أرى أبعاد الكارثة ليس في البلديات من غفلة، وإهمال، وضعف وعي، وثقافة تخلف، وقليل من السرقة والفساد، بل هو الذوق العام.

بجنبي جار فاضل سكن في مجمع، فزين بيته بشجر ومسبح، ولكنه ترك خلف العمل تلالا من الأتربة التي تزورنا كل يوم فتملأ النوافذ والأحداق، ولما خاطبناه بتوسل ورجاء أن يرفع بقايا الأتربة، كان جوابه سترفع. أنا متيقن أنني سأعود في رحلتي القادمة من كندا، وقد زاد التراب والحصى أطنانا جديدة.

معنى هذا أن المواطن يعيش في جزيرته الخاصة ولا يهمه ما حوله.. في كندا يندر مثل هذا أن لا يرفع مخلفاته، أو تأتي البلدية وترفعها، وتغرمه الكلفة، ولكن بيننا وبين الوعي قنطرة التخلف، فنحن على دربها سائرون.

 

نافذة:

قمت بعمل تأسيسي إنقاذا لحياتي وزوجتي والكليتين وهو وضع نظام تصفية من الماء بكلفة ليست قليلة بثلاث فلاتر وفوقها فلتر رابع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى