الرأي

كسكس مغربي على مائدة حركات التحرير

دائما هي الأماكن تتحدث بلغة تستعصي على الإتلاف والتجاوز والإنكار. ولو كانت القاعات والكراسي والجدران تنطق، لما تعرض محور العلاقات المغربية – الإفريقية إلى كثير من التشويه وسوء الفهم ونكران الجميل.
لئن كان التقصير من سمات البشر، فإنه في قضايا صون الذاكرة لا يحتمل الإهمال. وكان أجدى ترك معالم الأمكنة التي احتضنت أحداثا كبرى، سياسية وثقافية ورياضية حتى، تتحدث بصوتها الخالص. فالروايات والقراءات يمكن أن يعتريها الخلط وسوء التأويل، بينما الأماكن تصمد كما الأحجار والجبال.
عادة تهتم البلديات ومصالح رعاية الأماكن التي لها تاريخ، بصون هذا المأثور. إذ تستحيل بيوت المبدعين والمفكرين والرواد في شتى أصناف المعرفة والإسهامات القوية لرجالات السياسة والزعامات، إلى متاحف ومقاصد للزوار الذين يستنشقون عبرها عبق التاريخ. ووجدت أن من المفيد الإشارة إلى مكتب صغير، كان يضج بالحركة والنقاش والحيوية، أثناء المد العاصف لحركات التحرير الإفريقية، يوم اهتدى المغرب لتحويل أراضيه إلى معسكرات تدريب المقاتلين دفاعا عن حرية إفريقيا، كما كان يمد هذه الحركات بالدعم المالي والعسكري، على رغم قلة إمكانياته، لأنه كان يعتقد فعلا في مشروع الوحدة الإفريقية، كما يستدل على ذلك من استضافته قمة الدار البيضاء، في حضور الملك محمد الخامس والزعيم المصري جمال عبد الناصر والقائد الإفريقي أحمد سيكوتوري، إضافة إلى مودي بوكيتا ونكروما ورموز آخرين.
خلف فندق «باليما» الشهير الذي يتربع على الصدارة في شارع محمد الخامس بالرباط، استقر زعماء ومندوبو حركات تحرير إفريقية في مكتب صغير، لم يكن يميزه عن الدكاكين والمحلات المتناثرة هناك غير لافتة كتب عليها أنه مقر حركات تحرير البلدان الواقعة تحت الاحتلال البرتغالي. في إشارة إلى أنغولا والموزمبيق وغينيا بيساو والرأس الأخضر وغيرها.
كان اختيار المغرب تحديدا يرجع إلى وجاهة الالتزام المبدئي للمغرب بدعم النضال الإفريقي. ولم يكن يشترط على أي حركة أو زعامة أن تدور في فلك اختياراته، بل إنه شكل استثناء في قاعدة الدعم الذي يقدمه نظام ملكي لحركات ذات توجهات يسارية.. لأن ما كان يهمه هو تحرير إفريقيا، ثم بعد ذلك سيكون من حق شعوبها أن تقر في ما ترتضيه من خيارات مذهبية في بناء استقلالها.
وجد إميل كابرال كما نيلسون مانديلا واغوشينو نيتو وايكو كاربيرا وغيرهم كل الدعم والمساندة، من دون أي شروط، غير ما يهم تأطير المقاتلين واستضافة الطلبة الأفارقة في معاهد التدريس المغربية الناشئة، ومدهم بالمنح ووسائل الإقامة. كان السلوك حضاريا، غير أن بواعث الخلافات الإيديولوجية ستكون ذات طعم مغاير، على غرار قول الشاعر: «ولما اشتد ساعده رماني»، وما الرماية صنعت بطولات ولا أقبرت حقائق.
كان زوار الفندق يلمحون وجوها إفريقية بارزة، وهم يحتسون قهوة الصباح في فنائه. يحملون أوراقهم وملفاتهم ويناقشون بعضهم في أنجع الوسائل للتعريف بالقضايا العادلة للشعوب الإفريقية. وبعد سنوات ألح علي عامل في الفندق بالبحث في مسارات زواره.
كان رجلا نحيلا ودمثا قضى الجزء الكبير من حياته عاملا في الفندق، وسجلت ذاكرته أسماء الشخصيات التي مكثت هناك تحت ضيافة المغرب. من بينهم من أصبح رئيس دولة أو وزيرا أول أو نائبا في البرلمان أو زعيما حزبيا. عدا الأفواج الكثيرة للفنانين والمبدعين من يوسف وهبي وفاطمة رشدي، إلى أم كلثوم وفرق الغناء العربي الأكثر شهرة وتألقا.
حدثني الرجل عن المكتب الذي كان يوجد خلف الفندق، قال إنه كان يحمل لزواره أطباق الشاي والحلويات المغربية التي كانوا يتذوقونها بلذة ساحرة. وروى أن أحد أولئك الزعماء اقترح عليه أن يعمل لفائدته حين تستقل بلاده عن الاحتلال البرتغالي. فقد كان الأمل شاسعا في أن وقت الخلاص قادم لا محالة. ولم يستوعب ذلك العامل في وقت لاحق كيف أن دولا إفريقية من بين حركات التحرير التي استضافها المغرب، راحت تزايد على المغرب والمغاربة في قضية الوحدة الترابية، بعد أن استقلت تلك البلدان.
قال الرجل إن في وسعه أن يقدم شهادة في التلفزيون أو حتى أمام الأمم المتحدة تؤكد كيف أن المغرب لم يبخل بكافة أشكال الدعم على حركات التحرير الإفريقية. كنا نلقبه باسم «الموتشو» كناية بقوة ذاكرته وسماحة قلبه، وكان يتألم كثيرا لأن ذاكرة المكان والتاريخ لم تحظ بما يليق بمقامها من إشهاد.
دلني «الموتشو» على الرجل الذي كان يتسلم كلفة كراء مقر حركات التحرير في المستعمرات البرتغالية من السلطات المغربية، لكنه تذرع برفض الإفصاح عن سومة الكراء. موضحا أنه زار ذلك المكتب مرات عديدة، وكان أقرب إلى قلوب المقيمين به أن يأكلوا وجبة كسكس مغربي كل جمعة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى