كيف يقرر لوبي الأغنياء كل السياسات الوطنية والعالمية
كتاب «الصعود.. تحقيق حول نفوذ النخبة» لفرانسوا دونور

تتكون النخبة الحاكمة من رجالٍ تُمكّنهم مناصبهم من تجاوز الحياة اليومية للرجال والنساء العاديين؛ فهم في وضعٍ يُمكّنهم من اتخاذ قراراتٍ ذات عواقبَ جسيمة. إنهم يُسيطرون على التسلسلات الهرمية والمنظمات الرئيسية في المجتمع الحديث. يُشغّلون آلة الدولة ويدافعون عن صلاحياتها. يُوجّهون الجيش، ويمسكون بمراكز القيادة الاستراتيجية للبنية الاجتماعية، حيث تتمركز الوسائل الفعّالة لممارسة السلطة والثراء والشهرة. لذلك يُقدّم هذا الكتاب أدواتٍ لفهم الفئات الحاكمة: فهي مُتمايزةٌ في قاعدتها، ومتشابكةٌ في قمتها وتسلب عامة الناس سلطتهم على الحياة الديمقراطية. ويُفصّل الكتاب الظروف التي تسمح باستمرار هذا الوضع، ويهدف إلى شرح كيف أن النقاش العام غالبًا ما يقتصر على نقاشٍ بين قادة الرأي.
نخب المال والسياسة
صدر كتاب «الصعود.. تحقيق حول نفوذ النخبة»، في 12 يونيو 2025، عن دار نشر «لا ديكوفيرت» ضمن مجموعة «غراند ريبير». وأهميته تكمن في كونه يوفر أدوات عملية لدراسة أماكن السلطة وأصحابها، متجاوزًا بذلك مجرد مراجعة أدبية حول النخب. لذلك يجمع الكتاب بين النظرية والتطبيق، ويجيب على أسئلة جوهرية عن كيفية صياغة البحث رغم التفاوت الاجتماعي بين الباحثين، وكيفية الوصول إلى الأرشيفات أو كيفية رصد المساحات المغلقة عادةً.
يتألف الكتاب من ثلاثة أجزاء («مسارات القراءة»، و«الأدوات» و«المشاريع»)، وهو يتكيف مع مجالات الاهتمام: الإدارة العليا، أو السياسة، أو القادة الاقتصاديين. يجمع كل قسم بين مراجعة أدبية وإرشادات عملية لفهم، على سبيل المثال، آلية عمل المكتب الوزاري، أو توظيف النخب الاقتصادية أو دور شركات الاستشارات. وأخيرًا، يُقدّم هذا الدليل المُناهض لنظريات المؤامرة تحليلًا دقيقًا للسلطة، يُركّز على وصف البنى الاجتماعية وعمليات التنشئة الاجتماعية. ويُحذّر من التبسيط في التفكير في أشكال التنسيق بين النخب دون استقراء أو مبالغة، وذلك بهدف إنتاج تحليل مُستنير حقًّا بالعلوم الاجتماعية.
يُعنى فرانسوا دينورد، عضو مركز علم الاجتماع الأوروبي، الذي كتب المقدمة وحدّث هذا الكتاب، بالأيديولوجيات الاقتصادية وبنية النخب الحاكمة في فرنسا. ذلك لأن تراكم الثروة والمعرفة والعلاقات والنفوذ يمنح المؤسسات، والمنظمات وبعض الفاعلين القدرة على اتخاذ قرارات تؤثر على حياة أكبر عدد من الناس. إن الموارد التي يخصصونها والوسائل المتاحة لهم لفرض آرائهم، والتأكيد على ما يهمهم، أو الدفاع عن امتيازاتهم، تجعل من الضروري أكثر من أي وقت مضى النظر إلى «الأعلى» ودراسة أصحاب النفوذ.
وللقيام بذلك، لا شيء يضاهي نهج العلوم الاجتماعية الكلاسيكي. فهو يراعي أشكال التمايز، ومبادئ التسلسل الهرمي وأساليب التنسيق التي تُشكل المجتمع، ويتمثل في اللجوء، وفقًا للفرص والانتكاسات التي تُميز جميع البحوث التجريبية، إلى أساليب مُجرّبة (الملاحظة، والمقابلات، والأرشيفات والإحصاءات). أما الوصفة الأخرى لهذا الدليل فهي «وضع كل شيء في الحسبان» لدراسة الإدارة العليا، ودوائر الأعمال والسياسة.
هكذا تربك سطوة المال على السياسة في المجتمعات الديمقراطية حسابات الليبراليين، وتنزع مصداقية أحد الادعاءات الأساسية للفكرة الليبرالية وهى كون المواطنين أصحاب حظوظ متساوية في تحديد هوية شاغلي المناصب التنفيذية والتشريعية ومن ثم وجهة ومضمون السياسات العامة المنفذة.
المبالغ الطائلة التي تنفق في الحملات الانتخابية، ومحدودية اعتماد المرشحين على تبرعات المواطنين الصغيرة مقارنة بتبرعات المصالح الاقتصادية والصناعية والمالية ونخب أصحاب الأعمال، وأدوار جماعات الضغط التي حلت عمليا محل الأحزاب السياسية في صياغة تصورات وبدائل السياسات العامة من النظم الضريبية إلى قوانين الرعاية الصحية وحماية البيئة؛ مثل هذه العوامل وغيرها تقلل عمليا الاختيارات المتاحة للمواطنين حين يذهبون إلى مراكز الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات. وعندما تدفع من جهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتلاحقة التى تتعرض لها المجموعات السكانية الفقيرة والطبقات الوسطى ومن جهة أخرى دينامية النقاش العام في المجتمعات الديمقراطية بمرشحين من اليسار التقدمي، على غرار برني ساندرز في الولايات المتحدة الأمريكية أو من الليبراليين غير التقليديين، مثل الكثير من سياسيي الخضر في أوروبا وتدفع من خلالهم بتصورات للسياسة العامة أكثر إنسانية وعدلا وحرية، فإن سطوة المال على السياسة تفرض إما استبعادهم من السباقات الكبيرة (الرئاسة الأمريكية) وإما تبقي عليهم في مواقع الأحزاب الصغيرة.
التحايل على الفقراء بالوطنية الزائفة
غير بعيد عن الأمر ذاته، صعود الشعبوية في المجتمعات الديمقراطية، يعتمد دونالد ترامب ونظراؤه الأوروبيون على مصالح اقتصادية وصناعية ومالية كبرى تجتذبها المقولات العنصرية والشوفينية من نوعية «أمريكا أولا» و«سنعيد هولندا إلى الهولنديين» و«العرب والمسلمون كالطاعون المدمر لفرنسا»، ومن ثم تمول تلك المصالح حملات «الترامبيين» الانتخابية وتقدم لهم دعما سياسيا مؤثرا. إلا أن الشعبوية تعمل على اصطياد المواطنين الفقراء ومحدودي الدخل والمنتمين للطبقات الوسطى بزعم تبنيها سياسات عامة ضد المصالح الكبرى ورفضها للعولمة الاقتصادية واتفاقيات التجارة الحرة التي تنقل فرص العمل من الغرب إلى مناطق أخرى ولا يستفيد منها سوى أغنياء الغرب، وأيضا بادعاء حرص الشعبويين على «تنقية السوق» من الأجانب والمهاجرين غير الشرعيين لكي لا يواجه «أبناء البلد» منافسة تقلل من حظوظهم في العمل وتهدد مستوياتهم المعيشية.
بمكيافيلية صارخة، يأتي ترامب إلى السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة بحكومة الوزراء فاحشي الثراء وأصحاب الثروات الطائلة من مضاربات في البورصات العالمية ومن ترؤس بنوك عالمية وشركات مضاربات مالية تقدم دخولا خيالية ومن الإفادة من الأزمات المالية، مثل أزمة 2008 التي أحدثها جشع رؤساء تلك البنوك والشركات ومن العولمة الاقتصادية التي تتيح إنتاج الكثير من السلع بأرخص الأسعار في بلاد الشرق والجنوب الرخيصة (ومن هناك على سبيل المثال يرد الحديد وغيره من مواد البناء التي يستخدمها المقاول دونالد ترامب في تشييد مبانيه ومنتجعاته في الولايات المتحدة وحول العالم). يأتي بهم بعد أن دغدغ مشاعر الفقراء ومحدودي الدخل والطبقة الوسطى (البيضاء) بخطاب الانحياز إلى مصالح المظلومين والمهمشين وبسطاء العمال (من البيض فقط) الذين تراجعت دخولهم الفعلية، وبمقولات رفض العولمة وجشع المصالح الاقتصادية والمالية الكبرى، وبوعود الحفاظ على فرص العمل في القطاع الصناعي بمعاقبة الشركات الأمريكية وغير الأمريكية التي تنقل خطوط إنتاجها من الولايات المتحدة إلى الخارج. يستعصي موضوعيا تفسير صعود ترامب ونظرائه، من قبيل السيدة لوبن في فرنسا وفيلدرز في هولندا وحركة البديل من أجل ألمانيا، دون إدراك كيف يحصل الشعبويون في آن واحد على التمويل اللازم لحملاتهم الانتخابية ولأحزابهم وحركاتهم السياسية من المصالح الكبرى ويعتاشون على دغدغة المشاعر بزعم رفضهم لسطوة المال على السياسة وانحيازهم للأغلبية التي يكونها البيض من الفقراء ومحدودي الدخل وبسطاء العمال والطبقة الوسطى.
الشعبوية.. أداة أصحاب النفوذ
ليس فى مكيافيلية الشعبويين هذه سوى إفادة من الأزمة التي تحدثها للفكرة الليبرالية سطوة المال وتفريغ مبدأ المساواة بين المواطنين من المضمون، وتتشابه بجلاء مع صعود الحركات الفاشية والعنصرية في الغرب بين الحربين العالميتين وفي سياق الكساد العظيم، حيث تحالفت المصالح الاقتصادية والمالية والصناعية الكبرى في ألمانيا وإيطاليا مع حكومتين إجراميتين قتلتا واضطهدتا وأشعلتا الحروب وأطلقتا آلات عسكرية مجنونة لبناء الإمبراطوريات، وكل ذلك أفاد المصالح الكبرى بشدة (لم يزل على سبيل المثال تحالف كبريات البنوك والشركات الصناعية الألمانية مع النازي وتورطهم عبر الدعم المالي وتصنيع العتاد العسكري ومستلزمات الجيوش في الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت في الحرب العالمية الثانية يلقي بظلاله القاتمة على بنوك، مثل البنك الألماني وشركات كسيمنس وبوش ودايملر بنز وهينكل وغيرها). وفى الوقت نفسه زعم الفاشيون انحيازهم إلى «أبناء البلد الأصليين» ونفذوا لبضع سنوات، من خلال برامج حكومية لتطوير البنى التحتية والمرافق، سياسات تشغيل أخرجت من البطالة قطاعا واسعا من فقراء ومحدودي الدخل وبسطاء العمال (من البيض والمسيحيين فقط)، ثم دفعت بهم بعد أن زيفت وعيهم بعنصرية بائسة ووطنية شوفينية إلى أتون الحروب وهاوية الموت لكي تبني الإمبراطوريات وتضمن المواد الخام بأسعار زهيدة وتفتح الأسواق العالمية وتحضر العمالة الرخيصة (من بين الحقائق المنسية لهولوكوست النازيين ضد اليهود الأوروبيين كونهم استنزفوا كعمال سخرة قبل الإبادة في المصانع والأرض الزراعية وأعمال البناء).
اليوم، يعلن أصحاب النفوذ المالي تنفيذ سياسات مشابهة من «الاستثمارات التريليونية في البنى التحتية والمرافق» لدى ترامب إلى التوسع الموعود في سياسات التشغيل الحكومية «لأبناء البلد» الذى تعد به السيدة لوبن وفيلدرز وحركة البديل من أجل ألمانيا. وفى الفضاء العام تتردد أصداء مقولات العنصرية والوطنية الشوفينية التي توظف لتزييف الوعي واستكمال دغدغة مشاعر الناس بغية الحصول على انتصارات انتخابية.
تقضي سطوة المال على ثقة قطاعات شعبية واسعة في الفكرة الليبرالية والممارسة السياسية المرتبطة بها، وتلغي عمليا مصداقية مبدأ المساواة بين المواطنين كناخبين لهم حظوظ التأثير نفسها إن في ما خص نتائج الانتخابات أو لجهة تحديد هوية شاغلي المناصب التنفيذية والتشريعية. يحرز ترامب ونظراؤه انتصارات انتخابية متتالية بتوظيف مزدوج لسطوة المال يجمع بين الحصول على دعم «أصحاب السطوة» ودمجهم في أروقة السلطة والحكم وبين إنتاج خطاب سياسي مكيافيلي يزعم زيفا محاربتهم والانحياز إلى المظلومين والمهمشين من الفقراء ومحدودي الدخل والعمال والطبقات الوسطى ويروج لزيفه بمقولات عنصرية وشوفينية تدغدغ المشاعر.
في المقابل، تعجز الأحزاب والحركات الليبرالية التقليدية (الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة والأحزاب المسيحية الديمقراطية في أوروبا) عن الاعتراف بالتداعيات الكارثية لسطوة المال، وتخفق في تطوير تصورات وبدائل للسياسات العامة تستهدف تغيير الدفة وإنقاذ الممارسة السياسية للفكرة الليبرالية المستندة إلى التعددية وتداول السلطة وحكم القانون من الانهيار باستعادة مصداقية مبدأ المساواة بين المواطنين وتحجيم دور المال وأصحابه في السياسة. لأن الليبراليين التقليديين عاجزون ستتواصل هزائمهم الانتخابية، ويستمر انصراف الناس عنهم، وتتصاعد الاتهامات الموجهة إليهم كنخب فاسدة متحالفة مع المصالح الكبرى ولا يعنيها الصالح العام ولا تلتفت إلى أزمات المواطنين، وتتكرر مشاهد انجراف الناخبين نحو الشعبويين. ولأن الليبراليين التقليديين عاجزون لن يأت من خاناتهم الإنقاذ المرجو للفكرة الليبرالية، بل سيصدر عن خانات اليسار التقدمي (الدينامية الراهنة للحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا) وخانات الليبراليين غير التقليديين (الخضر على امتداد أوروبا والحراك المقاوم لترامب في الولايات المتحدة).





