الرأي

«لا تصالح!»

نورة كاسيم
«الخيط الرفيع» رواية للأديب المصري «إحسان عبد القدوس». الحقيقة أنني لم أقرأها ولا تستهويني قراءتها، لأنها على ما أظن تشبه إلى حد كبير رواية «رد قلبي» للأديب المصري، والضابط في الجيش المصري إبان حكم «جمال عبد الناصر»، وأظنه ينتمي هو أيضا إلى زمرة الضباط الأحرار، يوسف السباعي. «رد قلبي» شاهدتها كفيلم مصري عندما كنت أدرس بالثانوية. فيلم سينمائي فيه إفراط من الرومانسية التي أظنها ساهمت في تبليد جيل بأكمله. هو من نوعية تلك الأفلام العربية التي كان الأداء التمثيلي فيها يكتنفه تصنع لا يمكن عدم الاكتراث له. أداء تمثيلي قال عنه «عمر الشريف»، بعد أن أصبح أحد نجوم «هوليوود»، إنه لا يتمالك نفسه من الضحك عندما يشاهد أحد أفلامه السينمائية التي مثلها خلال بداية مسيرته الفنية. هذه النوعية من الروايات التي غالبا ما كانت مادة دسمة لسيناريوهات أفلام فترة الخمسينيات والستينيات خصوصا، تكرس لصورة نمطية لامرأة هدفها الأسمى في كل هذا الكون الرحب هو انتظار فارس يمتطي حصانا أبيض! ولا أدري لماذا الأبيض بالذات!؟ إذ إن الألوان الأخرى للأحصنة هي الأجمل من وجهة نظري. لا نقاش في الأذواق! هذا جد واضح.
ولكي تتضح الصورة قليلا، أسرد هنا قصة طريفة روتها الفنانة المصرية «مريم فخر الدين»، حيث قالت في أحد لقاءاتها التلفزيونية إن فتاة ظلت متعلقة بشاب كان يراقبها من خلال «شرفة» بيتهم. وكانت هذه المراقبة تستغرق فترات طوال من اليوم كما أنها قد تستغرق اليوم بأكمله! هذه القصة استغرقت حوالي ثلاثة أشهر! في أحد الأيام ذهبت هذه العاشقة الولهانة إلى طبيب العيون فتبين أنه يلزمها أن ترتدي نظارات تصحيحية للنظر. فور ارتدائها لنظاراتها حرصت الفتاة على الذهاب للنظر من نافذة بيتهم على «شرفة» محبوبها. فكانت الصدمة أن أدركت هذه المسكينة أن ما كانت تنظر إليه من بعيد وعلى مدى ثلاثة أشهر كاملة ليس سوى «قلة» للماء من طين!
هناك دائما خيط رفيع بين الشيء ونقيضه. بين الطيبة والغباء، بين المجاملة والنفاق، بين الصراحة والوقاحة وهكذا…
اختارت أختي خلال سنتها الأخيرة للإجازة، بمعية أستاذها المشرف، موضوع «تيمة الموت عند أمل دنقل» عنوانا لبحثها لسنتها الختامية. هذا ما كنت أظنه، أنها اختارت موضوع بحثها؛ لكنها صححت لي في ما بعد هذه المعلومة بأن الدكتور المشرف على البحث فرض عليها هذا الموضوع بالذات. رجوت أختي أن أرقن (la saisie) لها بحثها هذا على جهاز الحاسوب، لا لشيء سوى لكي أتمكن من الكتابة على الحاسوب باللغة العربية بشكل أسرع. عنوان موضوع البحث كئيب! وما زاد من كآبته صورة «أمل دنقل» نفسها، التي اختارتها أختي لكي تكون على غلاف بحثها. كنت أظن أن «أمل دنقل» كاتبة امرأة وليس كاتبا رجلا!
من أهم الأساتذة الذين أدين لهم بالتعرف على بعض خبايا وأسرار لغة الضاد، الدكتور «أسامة فوزي» المولود بمدينة الزرقاء بالأردن وذو الأصول الفلسطينية. هذا الدكتور الذي يعيش بمنفاه الاختياري بمدينة «هيوستن» بولاية تكساس الأمريكية، اكتشفت قناته بالصدفة على شبكة النت. وهو يقول، والعهدة عليه، إنه درس بعضا من أمراء إحدى دول الخليج. في إحدى حلقاته، قال هذا الدكتور إنه في إحدى زياراته لمصر، دعي من لدن أحد أصدقائه الأدباء في مصر لصالون أدبي، ولأن الداعي كان يعلم أن دكتورنا سوف يلتقي «أمل دنقل»، ترجاه أن لا يتحدث عن هذا الصالون أمامه وأكد عليه أن لا يصطحبه معه. السبب كما شرح الدكتور هو أن «أمل» كان سليط اللسان! ليس بينه وبين المجاملة إلا الخير والإحسان! لم يكن «أمل» يعترف أصلا بوجود ذلك الخيط الرفيع بين المجاملة والنفاق! ربما لأنه مصري صعيدي، وكل العالم العربي أصبح ملما بعادات وطباع أهل صعيد مصر من خلال الدراما المصرية. لمن يساوره فضول لمعرفة مدى صراحة «أمل دنقل»، أدعوه لقراءة قصيدته الرائعة، في نظري طبعا والأذواق تختلف ولا تناقش، «لا تصالح»، قصيدة تذكرني بتلك التي كتبها «نزار قباني» عن حكام دول الخليج والذين نعتهم فيها بأبشع النعوت القدحية، قصيدة قرأها الدكتور «أسامة» في إحدى حلقات برنامجه، قصيدة يسعى هؤلاء الحكام لإخفائها بل وإخفاء الديوان الذي كانت ضمنه. قصيدة «الحب والبترول»، التي كتبها «قباني» سنة 1958، تبين أن الرومانسية عند «نزار قباني» شيء براغماتي؛ صاحب قصيدة «أشهد» هو أيضا القائل: «سند الفتاة بعد موت أبيها هو راتبها الشهري، لا نقاش ولا فلسفة إنها حقيقة! »، مقولة وجدتها في أحد المواقع العربية ولا أدري صحتها من عدمه! مقولة، إن صحت، تثبت أن لا رجل أتقن اللعبة إلا هو!
«لا تصالح» بالنسبة لي قصيدة أكثر من رائعة! كانت حياة «أمل دنقل» بئيسة وقصيرة أيضا، إذ توفي عن عمر ناهز 43 عاما.
عند قراءتي لكتاب «الروح» لابن القيم، علمت أن الأرواح يمكن أن تتلاقى خلال موتها الأصغر مع أرواح بلغت موتتها الدنيوية الأخيرة، إذ يشير إلى أن أرواح الأموات يمكن أن تلتقي أموات الأحياء! كما يمكنها أن تخبرهم عن بعض ما حدث في الدنيا بعد موتهم. لا أعرف صراحة مدى صحة هذا الأمر، ولكن إن كان هذا فعلا صحيحا فأعتقد أنه لا بد وأن روحا انتقلت من عالمنا هذا إلى عالم الأموات قد أخبرت روح «دنقل» بأنهم صالحوا، وطبعوا أيضا! بل وقد تخاصموا في ما بينهم! ولو أنني أفضل بأن تترك روحه لترقد بسلام.
من المفارقات أن أختي اسمها «جليلة»، و«الجليلة» ذكرت في قصيدة «لا تصالح»! ربما هذا ما جعل أستاذها يختار لها موضوعا له صلة بالشاعر «دنقل».
أختي التي تعتبر «دنقل» تميمة حظها كما تقول دائما. كيف لا وهو الذي كان سببا في ولوجها مهنة تدريس اللغة العربية حيث ألقت بعضا من شعره على الأساتذة المشرفين على انتقاء الطلبة الأساتذة سنة ولوجها هذه المهنة؛ وكان سببا مرة أخرى في نيلها شهادة إجازتها. إنها الأقدار، فالسببية موجودة في أبسط الأشياء المحيطة بنا.
لا تصالح!
..ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى..:
ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك،
حسُّكما – فجأةً – بالرجولةِ،
هذا الحياء الذي يكبت الشوق.. حين تعانقُهُ،
الصمتُ – مبتسمين – لتأنيب أمكما….
وكأنكما
ما تزالان طفلين!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى