الرأي

ماذا حدث في صيف 1965 في الجزائر؟

لا توجد دلائل قاطعة حول الدور الذي اضطلع به عبد العزيز بوتفليقة في الإعداد لخطة إطاحة الرئيس الجزائري أحمد بن بلة من طرف وزير دفاعه آنذاك هواري بومدين. ففي أكثر من رواية أن غالبية الجزائريين تابعت وقائع الحدث صيف العام 1965، كما لو كانت تتفرج على شريط سينمائي، اقتضى أن تظهر الدبابات في شوارع العاصمة، وهي تزحف على القصر الجمهوري.
لم تكن الثورة الجزائرية استثناء في مآل غريزة «أكل الأبناء»، فقد جرى اعتقال حسين آيت أحمد، ونُفي محمد بوضياف وسادت موجة تصفية بين رفاق الدرب الذين تنازعوا الأفكار والسلطات، كما في حالات الاختناق التي لا تنتهي إلا بحدوث انفجارات داخلية. وطالما أن السلطة استباحت رموز ثورتها، فلا مانع من أن يظهر بين الصفوف الخلفية من يقتنص الفرصة.
بعد حوالي أربعة عقود، سينعطف الرئيس بوتفليقة، وقد فرض سطوته، في اتجاه دفع «الاتحاد الإفريقي» إلى تبني فكرة رفض التعامل مع أي نظام يستولي على السلطة، قادما على ظهر الدبابات. سواء أكان ينتقم لسنوات إبعاده واضطراره إلى حياة المنفى، بعد أن غيب الموت الرئيس هواري بومدين، وهو الذي كان يعتبر نفسه وريثه الشرعي، أم أنه كان يغازل أنظمة إفريقية لكسب ودها في معركته المفتوحة؟ فإن ذلك القرار أريد به الاطمئنان إلى نهاية ظاهرة الانقلابات الموسمية التي كانت تميز مظاهر صراع النفوذ في العالم الثالث.
الأشد حسرة وألما في ذلك، أن القرار في حد ذاته تجاهل أن أخطر من الإجهاز على شرعية النظم، هناك شرعية الدول التي تفوق مستويات الصراع وأنواع الاحتقان وحدود تصفية الخصوم المناوئين. وبينما كان أفارقة معتدلون وواقعيون يرون في تغيير اسم «منظمة الوحدة الإفريقية» إلى اتحاد إفريقي، على أن يكون ذلك فرصة تأمل ومراجعة لتصحيح أخطاء قاتلة، رمى بوتفليقة بطعم شرعية النظم لاستمالة ظرفية، كي لا يتم البحث في أزمة الشرعية داخل «الاتحاد الإفريقي».
يا لها من مفارقة أن يكون «الاتحاد الإفريقي» انجذب إلى مقاطعة دول اعترتها لحظات حسم الصراع على السلطة، كما في موريتانيا ومصر، ولم يلتفت إلى أن بداخله أخطر انزلاق ضد مفهوم الشرعية وقواعد وأسس الاعتراف بالدول والكيانات. وكل ذلك يندرج في إطار تسويق الصورة إلى الخارج بهدف احتواء تفاعلات الداخل.
لم يكن لمنظمة الوحدة الإفريقية أن تمرر الانزلاق على حساب دولة عريقة في تقاليد احترام القانون الدولي، مثل مصر، لولا تداعيات أزمتها الناشئة عن «طردها» من جامعة الدول العربية، بعد إبرام اتفاق «كامب ديفيد». ولم يكن لقادة أفارقة أن يتسمروا في مقاعدهم مندهشين، إلا نتيجة إحساسهم بأن الدور حان على تفتيت منظمة الوحدة الإفريقية.. إلا أن الشرعية تبقى كلا لا يتجزأ.
لم يكن نظام أحمد بن بلة نموذجا يفرض الأسف على رحيله. أقله أنه حفر على صعيد العلاقات المغربية – الجزائرية هوة عميقة، لم تنفع كل السنوات الطوال التي مرت على «حرب الرمال» في جسرها وتناسي مضاعفاتها.. ولو أن التاريخ الحديث يعرض إلى تجارب استطاعت من خلالها دول قاتلت بعضها بشراسة أن تعود إلى الوئام والتفاهم.
لكن وزير الدفاع الجزائري هواري بومدين لم يغفر لرئيسه أحمد بن بلة أنه نهره يوما في حضور الملك الراحل الحسن الثاني والرئيس المصري جمال عبد الناصر، عندما كان يهم بالدخول إلى قاعة اجتماع في فندق كبير في القاهرة، قائلا: «هذا بيت الرؤساء»، بلع بومدين ريقه وامتعض وجهه اصفرارا، وقد يكون فكر منذ تلك اللحظة في أن يصبح رئيسا للجزائر وينحي خصمه اللدود.. إلا أن ما ينطبق على مشاعر الأفراد لا يلزم الدول بالضرورة.
لم يصدر عن المغاربة، رسميا وشعبيا، ما يمكن اعتباره تدخلا في الشؤون الداخلية للجزائر. وعندما اتسعت رقعة الخلافات والصراعات داخل جبهة التحرير الجزائرية، خصوصا بين العسكريين والمدنيين، لجأت الرباط إلى تغليب منطق التعامل مع الدولة لا الأفراد. وكما نصب المغرب محامين للدفاع عن زعماء الثورة الجزائرية، خلال فترة اعتقالهم وإقامتهم الجبرية في فرنسا، التي كانت اختطفتهم على متن طائرة مغربية، سارعت هيئة المحامين المغاربة إلى تنصيب من يدافع عن الرئيس أحمد بن بلة، وكان ذلك أضعف الإيمان.
ربما لهذا السبب، وغيره كثير، لن يتوانى الرئيس الجزائري هواري بومدين في تصعيد حدة الخلاف مع جاره الغربي. فهو لم يتقبل معنى أن يطالب محامون مغاربة بتأمين محاكمة عادلة لغريمه الذي نحاه عن السلطة. وادعى مقربون إليه أن بن بلة سيوضع رهن الإقامة الجبرية ولن يخضع لأي محاكمة، لا عادلة ولا جائرة.
تردد في غضون ذلك، أنه ضغط بطرق مختلفة على فصائل من المعارضة المغربية التي كانت تؤويها الجزائر للحيلولة دون اتخاذ موقف مناوئ لانقلابه العسكري. وحين تعرض نظام الملك الراحل الحسن الثاني إلى هزات عنيفة، سارع بومدين إلى الاتصال به للاطمئنان على سلامته واستلامه زمام الأمور.. مع أن كل خطواته كانت تروم إضعاف النظام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى