شوف تشوف

الرأيالرئيسية

مدخل إلى القرآن الكريم

في مونتريال في كندا قمت بتجربة مع أحفادي في تقريب مفاهيم القرآن إليهم بلغة مبسطة. هم بعيدون نسبيا عن محيط اللغة العربية، لذا كنت أحيانا أستخدم اللغة الإنجليزية، بالاستعانة بنسخة مترجمة موثوقة إلى حد ما لنقل مفاهيم القرآن. التأويل هنا، أي التفسير، ليس بالسهل. وأتفهم هنا موقف أهل الطائف، حين رفضوا قبول ما ينطق به هذا الرجل (صلى الله عليه وسلم)؛ قال أحدهم: إن كنت تدعي أن الله اتصل بك وكنت صادقا فهو أمر أعظم من أن نستوعبه، وإن كنت تدعي كذبا فهي كذبة تستحق أن تعاقب عليها. رويت لأحفادي هذا الجدل، قلت لهم تصوروا أن إنسانا ما هنا عندنا في مونتريال يقف فجأة في ساحة عامة، فيقول إن الله خاطبني.. نحن هنا أيضا أمام جدل جديد، وهو معنى الوجود وكيفية اتصال بشر بمن هو خلف كل مظاهر الوجود قوة وعلما وحكمة ودقة وانتظاما ورحمة، إلى آخر ما نعرفه نحن المسلمون عن أسماء الله التسعة والتسعين.

هذه الظاهرة، أي اتصال البشر بمصدر الوجود، ثم الحديث معه والتخاطب بلغة يعرفها، وقدرة استيعاب اللغة مفاهيم وجودية ثقيلة نحن اليوم نسلم بها، ولكن لو قلبنا الموضوع وافترضنا أنه في عصرنا هذا ـ وكما أكتب الآن في المغرب في مدينة الجديدة ـ أن نسمع رجلا يقول إن الله تحدث معه وأوحى إليه أفكارا محددة، وبدأ يقرأ على رؤوس الناس كلمات معينة فيها أيضا قدر من الحكمة والموعظة، أعتقد أن الأمر مزلزل حقا ولسوف يُكذَّب، بل قد يتجمع حوله خلق كثير، بالإضافة إلى فتنة تدفع السلطات المحلية إلى إلقاء القبض عليه والتحقيق معه. في هذه النقطة نستفيد من فكرة الكاتب العراقي الوردي، حين يطرح سؤالا محرجا: لو عاصرنا رجلا، أيام البعثة وفي الطائف، والناس تحاصره، بل وتضربه بالحجارة يقول الوردي سهل علينا في هذه الأيام أن نصلي عليه، بل ونتذكر الدعاء الذي قام به: اللهم أشكو إليك ضعفي وقلة حيلتي وهواني على الناس. ولكن أين سيكون موقفنا من هذا الرجل، وقد تحلق حوله الناس يوجهون إليه الإهانات، بل والضرب؟ يسأل الوردي هل كنا مع المدافعين عنه، أم المشتركين في حفلة الضرب؟ في هذه النقطة ينفعنا أيضا ما جاء في كتاب الرحلات للطنجاوي المغربي «ابن بطوطة»، وهو يشاهد حفلة مثيرة في دمشق في تلك الأيام في أحد المساجد، ويعنون للحادثة بكلمة: الفقيه ذو اللوثة. يقول ابن بطوطة إن الناس ضربوه وطارت عمامته وسيق للتعزير، ويعقب أن هذا الفقيه أو العالم كان يقول أمورا غريبة.

هنا نفيد القارئ بأن المذكور المضروب الذي طارت عمامته كان ابن تيمية. ومن جملة الأمور الغريبة التي قالها الرجل، ثم تبنتها المحاكم الشرعية في كثير من البلاد الإسلامية، أن من يقول لزوجته: «أنت طالق ثلاثا»، لا تقع ثلاثا على الشكل المعروف أن عليها أن تتزوج زوجا غيره قبل العودة إليه، كان رأي ابن تيمية أن الطلاق هنا يقع طلقة واحدة. وما أريد أن أقوله إن ظاهرة النبوة وأن ينزل قرآنا بكلمات عربية لقوم يعرفون معنى الكلمات، وأن مصدرها الله خالق السماوات السبع ذو القوة المتين أمر ليس بالسهل، حين يخرج الإنسان من حوض التقليد إلى بناء العقل النقدي. من هنا فإن الدخول إلى البناء القرآني يتطلب مراجعات ليست بالسهلة لمن ودع التقليد، وبدأ في بناء العقل النقدي العلمي التحليلي وهو ما حصل أيضا من أزمة في الفكر الغربي أمام مفاهيم الكنيسة، وثمة حواجز عقلية ليست بالسهلة مطلقا، ومنه قال الفيلسوف فريدريك نيتشه: إن من أراد أن يرتاح فليعتقد، ومن أراد أن يكون من حواريي الحقيقة فليسأل.

نحن الآن في رمضان من عام 2023 ميلادية، وهو قريب من منتصف القرن الخامس عشر بعد الهجرة 1444 هجرية، وما زال القرآن صامدا يكشف كنوزه الروحية لكل قارئ. أنا شخصيا أقرأه دوريا وحين أمر على الكثير من آياته، يعتريني ذلك الشعور وكأنني أقرأه للمرة الأولى، وهو الشعور نفسه الذي قاله لي صهري في مونتريال، حين صليت به المغرب فتمتعنا روحيا بوهجه الجميل. حاليا أمر على الآيات متفحصا باحثا، بل وطارحا العديد من الأسئلة والرجوع إلى التفاسير العشرة الموجودة في مكتبتي الجميلة في مونتريال بكندا.

نصيحتي لمن يقرأ كلماتي أن يأتي إلى الآيات وليحاول استنطاقها. هنا كتب التفسير متفاوتة ومختلفة، مثلا تفسير النسفي مختصر جدا، وقد يفيد في معنى كلمات بعينها، ولكن عيبه في عدم وجود فهرس واضح. كذلك فإن كتب التفسير القديمة ليست مثل الجديدة، فالقرطبي قديم والقاسمي جديد، ورشيد رضا في تفسيره الذي غطى 11 جزءا فقط يناقش المسائل القرآنية على نحو عصري، أما تفسير سيد قطب ففيه إطناب وأدب، ولكنه في بعض الآيات يلمع بشكل رائع، مثلا حين يتناول آية: وعنده مفاتح الغيب في مناقشة العقلية العلمية والغيبية، أو في قوله تعالى في سورة «يوسف»: «اجعلني على خزائن الأرض». وفي الحديث أنه لا نولي هذا الأمر أحد سأله. وهو ما يناقض الطرق الديموقراطية الحديثة على نحو مقلوب، أي شراء الأصوات والدعاية لمن يرشح نفسه، فيبذل المال ويوزع الصور ويتصل بالناس من أجل انتخابه، وهو ما رأيته في كندا، حين زارني البرلماني المغربي «منصف الديراجي» عندما رشح نفسه، وهذا يعني تطورا جذريا لمفهوم الديموقراطية والانتخابات.

ما أريد قوله في هذه المقدمة الهامة للمدخل القرآني إن الكثيرين طلبوا مني وشجعوني أن أضع تفسيرا حديثا للقرآن ـ وأنا الحافظ له ـ وهو أمر فكرت فيه منذ زمن بعيد، حين عرضت أيضا الموضوع على هشام علي حافظ رحمه الله في السعودية، وتحمس له، ولكن خطفته المنية.

خالص جلبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى