
خالد فتحي
عندما اتهمت دولة الجزائر المغرب بالتجسس عليها من خلال تطبيق بيغاسوس، ثم أعقبته بتهمة اقتراف الحرائق بشمالها، وباحتضانه لتنظيم الماك المطالب باستقلال القبائل، لم يكن كل ذلك ليعني إلا أمرا واحدا، وهو أنها انتقلت من مرحلة الهذيان المهووس بمعاكسة مصالح المملكة إلى مرحلة تأثيث هذا الهذيان، و«عقلنته» وحشوه بالمبررات التي لا يقبلها طبعا لا العقل ولا المنطق. صحيح أن السعي إلى شيطنة المغرب شكل دائما عقيدة لنظام العسكر بالجزائر، منذ تسنمه السلطة بعد ذهاب فرنسا، إلا أن توالي الأحداث وتسارعها أخيرا كان ينبئ من ضمن ما ينبئ به أن مسألة قطع العلاقات مع المغرب قد صارت عنده مسألة وقت فقط، وأن القرار قد اتخذ في دهاليز السلطة الجزائرية ولم يتبق سوى تحييثه وتصريفه.
ومع ذلك، وأمام إرهاصات نوايا النظام الجزائري المنذرة بالتطرف في إدارة الصراع، عمل المغرب كل ما في وسعه لثني هذا النظام عن التوغل أكثر في هذا المسلك الذي يضر بمصلحة الشعبين. فالملك محمد السادس في خطاباته كلها كان يغلب جانب الحكمة ويسدى النصيحة، حتى أنه سك تعبيرا سياسيا أصيلا، حين وصف الجزائر والمغرب بالتوأمين، مناشدا المسؤولين الجزائريين دفن أحقاد الماضي والانصراف نحو المستقبل، خصوصا في هذا الظرف العصيب من التاريخ الذي يكفي الشعوب فيه ما تكابده من تداعيات اقتصادية واجتماعية وسياسية ونفسية رهيبة لجائحة كورونا، فكيف تضيف إليها بعض أنظمتها الشائخة التي ما زالت معتكفة عند مرحلة الحرب الباردة تشنجات وأزمات أخرى، هي في غنى عنها. كيف لا تتركها تنفض يدها من المعارك الخاسرة التي أجلت المعارك الحقيقية للتنمية؟ من الواضح الآن مع هذا القرار النشاز أن النظام الجزائري الذي بلغ من الجنون عتيا، لم يعد بوسعه الاستمرار على قيد الحياة إلا بالتفنن والإبداع الأسود في معاداة المغرب. قد شكل ذلك أسلوبه دائما، إذ كلما انهالت عليه مشاكل ومطالب الداخل، وشعر بالاختناق، إلا وعالجها عبر افتعال مشاكل بالخارج. ولذلك يسعفه المغرب كثيرا كونه يصلح لتحويله رغما عنه إلى عدو ينقذه من تقديم الحساب للشعب. حتى لقد عاد منتهى السياسة عند نظام العسكر، هو حجب نجاحات المملكة عن الجزائريين حتى يمنعهم من المقارنة بين المغرب والجزائر، وهو ما يضر بمصالح الجزائريين قبل الإضرار بمصالح بلادنا. فهذا النظام الذي يواجه حراكا صلبا لأكثر من سنتين، والذي بحت حناجر الجزائريين مطالبة برحيله، والمدين ببقائه لفيروس كورونا، هو نظام في أمس الحاجة إلى عدو لصرف الأنظار عن الفشل الذريع الذي عم كل القطاعات، والذي عراه الوباء بكل وضوح.
ليس إقامة العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل سببا في هذا الفجور في الخصومة، وإلا لماذا لم تقطع الجزائر علاقاتها مع السودان ومصر والأردن والبحرين مثلا؟ وليس بيغاسوس بمبرر أيضا، فالجزائر لا برنامج نووي لديها «ليتطقس» أخباره المغرب، وقد ظهر الآن أن الهدف كان هو تشويه صورة المخابرات المغربية الحامية للأمن والاستقرار ليس إلا. ولا هي بالتأكيد مبررة بالبيان المغربي الخاص بالقبايل، وإلا ماذا فعلت الجزائر تجاه باريس التي تؤوي ممثلي تنظيم الماك؟ ولكنها الندوب النفسية لطرد عناصر البوليساريو من الكركرات التي ما زال يعيشها نظام الجزائر الذي يدعي الحياد كهزيمة له، وردة الفعل المستمرة لديه من القرار الأمريكي بالاعتراف الكامل بالسيادة المغربية على الصحراء، والمخاوف التي تقضه من توجه مرتقب لإسبانيا وأوروبا للسير على النهج الأمريكي بخصوص هذه القضية العادلة للمغرب، بل إنه بالخصوص العداء الممنهج ضد بلادنا لمنعها من الإقلاع نحو مصاف الدول العظمى، خصوصا وقد توالت التقارير داخل أوروبا مفيدة باختلالات في ميزان التنمية لصالح المغرب الذي تطور بشكل كبير مقارنة بالجزائر، والذي هو في طريقه للتحول إلى رائد لكل إفريقيا. النظام الجزائري بهذه القطيعة المبيتة يقطع الأرحام من جديد، ويدفع المنطقة المغاربية نحو مزيد من التأزيم ونحو حافة المجهول، ويوجه الأطماع الدولية صوبها، لا سيما مع هذه القابلية للاختراق لمنطقتنا التي يجسدها الوضع المفكك بليبيا التي تتربص وتجول بها الذئاب الإقليمية، والحالة المؤسساتية الهشة جدا لتونس حاليا، بعد تجميد البرلمان والحكومة من قبل قيس سعيد، بل هو يئد الحلم المغاربي مرة واحدة ويدخله خزانة التاريخ.
من المؤكد أن قطع العلاقات بين بلدين يشكلان النواة الصلبة للمغرب الكبير يستحيل بدونهما تحقق هذا البناء الوحدوي، مثلما يستحيل تصور الاتحاد الأوروبي دون وئام فرنسي ألماني، سيكون له كلفة كبيرة يتحمل وزرها النظام الجزائري، أقلها وضع الملفات المشتركة على الرف كمحاربة الإرهاب، التطرف والتهريب والهجرة السرية والتكاتف من أجل التنمية، وسيؤدي إلى ارتهاننا لمصالح الغرباء، وتراجع القوة التفاوضية لشعوبنا تجاه الاتحاد الأوروبي والمحافل الدولية، التي ستظل تأتيها منفردة وضعيفة الواحدة تلو الأخرى.
نتمنى أن يستوعب إخوتنا في الجزائر أن السياق الإقليمي يجعلنا أمام خيارين اثنين: الاتحاد أو الاتحاد، فالعيش في زمن كورونا يتطلب التكتل في مواجهة هذا العالم، الذي عاد إلى مجتمع الطبيعة الأول. متى يفهم النظام الجزائري أن المغرب يحيا بالجزائر، وأن الجزائر تحيا بالمغرب، والمغرب الكبير يحيا بحياتهما. حتما سيأتي يوم تذوب فيه كل الخلافات، ويتحلق فيه الجميع حول المشروع المغاربي الذي يحضر فيه النماء والتقدم وتغيب فيه الأحقاد والحدود التي زرعها الاستعمار. بالنسبة إلينا في المغرب لا محيد لنا عن التمسك بسياسة اليد الممدودة للأشقاء، تشوفا لالتحام الشعوب المغاربية. تلك هي رؤية جلالة الملك، وتلك هي سليقة وفطرة المغاربة التي فطروا عليها. وبالتأكيد تلك هي فطرة الجزائريين أيضا.



