الرأي

هنا إذاعة الثورة الجزائرية

«هنا إذاعة الجزائر.. هنا إذاعة الثورة». انطلق الصوت هادرا يؤجج المشاعر ويشيع الثقة والأمل. وسمع الجزائريون على أمواج الأثير نداءات قادة جبهة التحرير الداعية إلى مواصلة الكفاح، والإعلان عن سقوط المشروع الاستعماري الذي تعمد إلحاق بلادهم بما وراء البحار.
حدث كبير في توقيته ونسقه ومبادراته. لم يكن يراد منه مزاحمة «إذاعة القاهرة» واسعة الانتشار والتأثير، بل كان أقرب إلى الإيحاء بنهاية الحقبة الاستعمارية التي دامت 130 سنة. وشكل اختيار موقع انطلاق البث الإذاعي علامة قوية بأن الانعتاق يقف على مشارف الجزائر التي لا يمكن أن تكون استثناء في المد التحرري الذي خلص جوارها الغربي والشرقي في كل من المغرب وتونس.
كانت الانطلاقة في نوفمبر من العام 1961، وكانت مدينة وجدة الأقرب إلى الشريط الحدودي مصدر انبعاث ذلك الصوت الذي يفيض حماسا، من بناية صغيرة لا يميزها شيء عن البيوت المجاورة.. كانت البداية التي تؤرخ للشوط الأخير من النهاية. وعلى رغم حداثة المغرب بالانتماء إلى عالم البث الإذاعي، فقد تطوع مهندسون وتقنيون ومذيعون بوضع بصماتهم على ميلاد أول إذاعة جزائرية موجهة استقرت في مدينة وجدة، وشرعت في بث الأناشيد التي تلهب الحماس، ثم توالت نشرات الأخبار والمعلومات عن المعارك التي يخوضها الثوار الجزائريون لتحرير بلادهم.
سنوات قليلة كانت انقضت على أول مؤتمر للأحزاب المغاربية الذي استضافته طنجة في حضور زعامات الاستقلال المغربي وجبهة التحرير الجزائرية والحزب الدستوري التونسي. ومن أجل إضفاء طابع شعبي وسياسي على ذلك الحدث، دعيت زعامات حزبية إلى حضور ذلك المهرجان الخطابي. وعلى رغم أن الحسن الثاني نادرا ما كان يخطب في مهرجانات شعبية في الساحات العمومية والملاعب الرياضية، فقد اختار الإعلان عن انطلاق المشروع الإذاعي من ملعب رياضي في مدينة فاس، في حضور قادة أحزاب مغربية وأشقاء جزائريين وتونسيين. وتمثل النشاز الوحيد في تقارير غاضبة صدرت من مصالح دبلوماسية فرنسية، أبرقت إلى العاصمة باريس تنبه إلى «مخاطر» الشروع الإذاعي. ولم يحل ذلك الموقف دون إنجاز المشروع الذي أصبح صوتا للثورة الجزائرية، لا تحكمه أي حسابات أو خلفيات إيديولوجية.
في ضواحي وجدة انتشرت معسكرات تدريب، يؤطرها قادة في القوات المسلحة الملكية وأعضاء في المقاومة وجيش التحرير، وتحولت إلى مركز انطلاق الكفاح المسلح الذي امتزجت فيه الدماء الجزائرية والمغربية، عبر انصهار مظاهر تضامن أخوي، أصبح مضرب الأمثال.
روى لي مسؤول عن المنطقة العسكرية أن الأوامر صدرت بمد الثورة الجزائرية بالسلاح والذخيرة والرجال. وقال إن منتسبين إلى الأمن والجيش كانوا يرافقون أرطال العربات التي تنطلق من الدار البيضاء والرباط ومكناس وفاس وتازة في اتجاه إفراغ حمولتها إلى تلك المعسكرات.
سيتم في غضون ذلك استنساخ تجربة تلك المعسكرات التي انفتحت على استيعاب منتسبين إلى حركات التحرير الإفريقية التي كان أفرادها يتلقون التداريب العسكرية والعون المادي والدعم السياسي. بخاصة في ظل تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية التي أسهم المغرب بقسط وافر في انبثاقها كأول منظمة قارية لإسماع صوت إفريقيا التي تنشد الاستقلال والتحرر والوحدة.
عديدة هي المرات التي تلقت فيها السلطات المغربية تحذيرات من العاصمة الفرنسية باريس للكف عن دعم الثورة الجزائرية. وفي تحد مباشر لجناح المتشددين الفرنسيين، أعلن المغرب عن رعاية مشروع إطلاق إذاعة موجهة إلى الجزائر يكون مقرها في وجدة، ما جلب عليه الكثير من المتاعب.. خصوصا وأن الإدارة المغربية كانت لا تزال تضم فرنسيين يتحكمون في الكثير من مفاصلها.
من أجل اكتمال الصورة، أراد المغاربة أن يتوازى دعمهم العسكري للثورة الجزائرية بخطوات إعلامية، طالما أن المعركة في مواجهة الاستعمار لا تستثني أي مجال. وفي الوقت الذي توقفت عقارب الساعة الفرنسية، وهي ترصد ما يمكن أن ينجم عن الحوار المغربي – الجزائري الذي انطلق بصورة جيدة وواعدة على عهد الحكومة الجزائرية المؤقتة التي كان يقودها فرحات عباس، صدرت المبادرة بتأسيس تلك الإذاعة.
سجل مراقبون في تلك الفترة أن الحسن الثاني قال بالحرف الواحد، موجها كلامه إلى الشعبين المغربي وشقيقه الجزائري، إن انطلاقة إذاعة موجهة من وجدة، يعكس روح التضامن والوفاء. وشوهد الوزير بلقاسم يصفق بحرارة، على غرار حشود جموع الحاضرين التي ارتفعت أصواتها بالهتافات: «عاش المغرب وعاشت الثورة الجزائرية».
غير أنه بعد انصرام عقد على ذلك الحدث، سيصبح تأسيس الإذاعات الموجهة خاضعا لأنماط الصراع السياسي والتدخل المباشر في شؤون الدول. ومن المفارقات أن الجزائر ردت على التحية المغربية بنوع من الجحود والإنكار، إذ عمدت إلى إنشاء إذاعة موجهة للانفصاليين في جبهة بوليساريو، والحال أن العقيد معمر القذافي اتجه بدوره إلى المنحى نفسه فأحدث ومول إذاعة معارضة. إنه مكر التاريخ يصدق على ردود الأفعال المتشنجة، والواقع أن الإعلام الذي وجد أصلا لتقريب وجهات النظر وجسر التفاعل الثقافي والحضاري بين الدول والشعوب، كثيرا ما جرى تسخيره لأهداف مناقضة لروح التضامن.
يوم قال المغاربة والجزائريون بصوت واحد: «هنا إذاعة الجزائر»، كان ذلك عنوان انصهار وتفاهم. أما اليوم فقد مرت ذكرى تأسيس الاتحاد المغاربي، ولا تزال حدود البلدين مقفلة، كما هي بعض العقول التي كانت وراء إنشاء إذاعات بتوجهات انفصالية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى