حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأي

تاريخ بطعم البن

جهاد بريكي

لقد شيدت قبل سنوات بعيدة على ناصية شارع رئيسي يحمل اسم جنرال فرنسي، أمامي متحف وخلفي ولاية أمن. ومن أمامي تمر مواكب الوزراء ومسيرات البطالة. شاسع وفسيح وداخلي بهو تمتد على طوله كراسي مريحة وطاولات مستديرة. المنظر يبعث على البهجة والحنين، فمالكي له ذوق رفيع ورثه عن جده الذي عاش في كنف الأتراك، يتفاخر به وبإتقانه لغة الإسبان. يمزج العصري بالأصيل ويستورد الزينة واللوحات من بلاد الأعاجم أرباب الفن كما يؤمن، فكل مستورد رفيع وكل محلي فيه نظر.
أنا مقهى لطيف، طُلي بلون وردي يميل لغروب شمس مارس، يصعب على من اعتاد أُنسي تغيير موعده المسائي للاحتماء بي. يرتادني المثقفون وأشباههم، والسياسيون وأذنابهم، والحقوقيون والثوريون والفنانون والنسويات الناضجات منهن والغاضبات والعشاق. أفضل العشاق، فهم أكثر ابتساما وأقل ضجيجا، أصواتهم خافتة لا يطالبون بشيء ولا يناضلون لأجل شيء. يأتون لغرض واحد يحركهم ويدغدغ ثباتهم فترى الرجل ببأس جيش يتراقص على نغمات عازف إيطالي متعصب كريشة نعامة شاردة. ثم يهيمون داخل عيون بعضهم البعض كأنهم تخلصوا من ضعفهم وانتقلوا لسدة الحكم والسيادة. أسياد العشق وحراس الهوى. أعرف نظرة الحب الأولى وأعرف الثانية والثالثة، أعرف كيف يخبو وهج الانبهار وكيف يتربع قلق الفقد. أفهم الوحيدين بعد رحيل أنصافهم. أشفق عليهم وأحب وحدتهم، أفهم أنها هي القادرة على إنقاذهم وإخراجهم من مأزق التخلي ودوامة الانسلاخ.
لقد شهدت دموعا حارة سالت على طاولاتي الذهبية، وأخرى كاذبة تثير الضحك. شهدت دموع فتاة مزهوة تذرفها لأجل موعد مع شاب سلب قلبها قد ضاع، ثم تضرب في الوقت نفسه موعدا مع شاب آخر قد سلبت هي قلبه. اكتويتُ لدموع امرأة هادئة بملامح صامتة لا تُرى ولا تُحس، كانت تنزل ساخنة لأجل أبناء أنانيين يرفضون زواجها بعد موت أبيهم خوفا من الشماتة. ثم شهدت الضحك بحجم الدموع، ضحك صاخب وآخر مكبوت. ضحك نجاح طبيب في نيل التخصص الطبي المراد، والمكانة الاجتماعية التي ستفتح له الأبواب نحو حلم السلطة. ضحك مسن تقاعد عن الأحلام توصل برسالة تحمل صورة حفيد يشبهه ويذكره بطفولته بين الوديان ورفقة القطعان. وكثيرا ما أنقذني من يأسي أمام وعود السياسيين والمتحزبين ضحك طفلة راقها طعم الفراولة وحلاوة الفطائر.
شهدت تغير الناس والعقول والأحوال، عشت مع الثوار حماسهم ومع المتأدلجين تعصبهم، احتفل الملتحون داخلي بأعياد ميلاد أطفالهم التي أفتوا بحرمتها قبل اليوم، وعقد الاشتراكيون صفقات أعمال ووقعوا قروض أبناك بأقلام صنعت بالصين فوق طاولات جاءت بها شاحنة أمريكية الصنع. تغيرت النساء وتغيرت نظراتهن، لم يعدن ينتظرن سخاء الرجال في دفع الفواتير. صرن يتفاخرن بإخراج بطائقهن الذهبية وعلب سجائرهن المنقوشة. واختلف الشباب الذي كان مولعا بالكلام والجدال والنضال، لقد صاروا يحتسون القهوة بشغف زائد ويلتقطون صورا لها كعارضة أزياء روسية، ينسبون حالة مزاجهم وشكل يومهم لها، ويكتبون لها الأشعار والحكم. ثم ينتهون بشرب الشاي. يضعون رواياتهم فوق الطاولات يتأملون الأغلفة ويهيمون داخل جماجمهم يفكرون. شباب نشؤوا في عالم رقمي يُصنفِّهم بحسب الأعداد والأرقام، عدد الكتب التي قرؤوها، عدد الدول التي زاروها، عدد اللايكات التي أحرزوها، عدد الفناجين التي احتسوها، عدد القلوب التي غزوها. تسجنهم الأعداد وتغريهم الكثرة ويحيط بهم الضجيج وتخترقهم الآلة. فيفقدون الخفة في التعامل مع الحياة، والحكمة في تحملها.

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى