
محمد الخلوقي
في محاضرة ألقاها «بيل غيتس»، مؤسس شركة «مايكروسوفت»، في مارس 2015، عبر عن خشيته من خطر قد يشكله فيروس شديد العدوى سيهدد البشرية في السنين القادمة. وشدد غيتس على أن التحديات القادمة للبشرية ليست الأسلحة النووية، بل الأوبئة الفتاكة. كان ذلك بمناسبة ظهور فيروس «إيبولا» في إفريقيا جنوب الصحراء، فلم تعر الدول اهتماما لما قاله خبير المعلوميات، وربما اعتبر البعض أن كلامه كلاما عابرا.
اليوم عرف العالم قيمة كلام مرت عليه خمس سنوات، بسبب تفشي وباء فيروس كورونا المستجد «كوفيد- 19»، والذي صنفته منظمة الصحة العالمية على أنه جائحة. وأغلقت الدول حدودها والبيوت أبوابها وأصبحنا نعيش على وقع الإحصائيات اليومية لأعداد الموتى والمتعافين وحاملي الفيروس. إغلاق سيكون له أثر سلبي على اقتصادات الدول، خصوصا الدول السائرة في طريق النمو، كما ستكون لهذه الأزمة تبعات أخرى على المستوى الدولي والمحلي. إذ أغلقت دول الاتحاد الأوربي حدودها على بعضها البعض في سابقة هي الأولى منذ تأسيس الاتحاد، كما اشتكت الدول المتضررة من الفيروس – إيطاليا- عدم تعاون دول الاتحاد من أجل إنقاذها، وهي على وشك الغرق في بحر من الجثت. عدم تعاون دول الاتحاد يمكن تفسيره باستشعار دوله أن الخطر يتهددها جميعا، وأن أي تفريط في معدات أو أطر طبية قد يكون له عواقب داخلية، حيث تأكد ذلك بالتحاق فرنسا وإسبانيا وبريطانيا بركب الدول الموبوءة وبدرجة أقل ألمانيا، وبالتالي فكان الملجأ للقدرات الذاتية للدول. ومع ذلك قامت ألمانيا باستقبال العديد من المرضى في حالات حرجة، من مواطني دول الاتحاد في مستشفياتها.
انتشار وباء فيروس كورونا المستجد بهذا الشكل انطلاقا من شرق آسيا إلى باقي دول العالم، هو نتيجة حتمية لما وصل إليه العالم في زمن العولمة من حرية وسهولة تنقل الأشخاص والبضائع من دولة إلى أخرى، وتطور وسائل المواصلات التي لعبت دورا كبيرا في سرعة انتقال الوباء بين الأشخاص في مختلف بقاع العالم، هذه المعطيات تحيلنا إلى ضرورة التفكير في شروط وقواعد جديدة تضبط العلاقة بين الدول والالتزام بها، مقابل استمرار هذا الانفتاح العالمي. فإذا كانت هناك عقوبات تفرض على الدول التي تقوم بتجارب نووية أو تستعمل أسلحة محرمة دولية لخطورتها على الحياة البشرية، يجب كذلك فرض قيود على الدول التي تبيح أكل جميع ما يدب على وجه الأرض دون مراعات لعواقب ذلك، والتي قد تصل إلى ما يخلفه استعمال السلاح النووي من ضحايا.
مع انتشار فيروس كورونا المستجد وبعيدا عن نظرية المؤامرة، فقد رجح الكثير من علماء الفيروسات أن الفيروس الذي كان ينتقل بين الحيوانات طور نفسه، لتشمل العدوى الإنسان كذلك. وإذ كانت الانطلاقة من مقاطعة «ووهان» الصينية الشهيرة بأسواق الحيوانات البرية المعروضة للأكل، فقد أصبح لزاما على المنظمات الدولية، خصوصا منظمتي الصحة والتجارة العالميتين، وضع لوائح دولية تعرض فيها ما يمكن أكله وما يجب تجنبه، والتشديد على مراقبة الصناعات الغذائية عبر العالم وفرض عقوبات دولية على المخالفين، إذا أراد العالم المضي قدما في العولمة وتجنب آثارها السلبية على البشرية. وإذا كان الحجر الصحي قد قيد حرية الأشخاص وأصبحوا سجناء البيوت، فوسائل التواصل الرقمية والتطور التكنولوجي كان لها دور فعال في التخفيف من وطأة هذا الحجر الصحي على نفسية الناس، ناهيك عن استمرار الدراسة عن بعد في جميع الدول المطبقة للحجر وتبادل المعلومة دوليا حول خصائص الفيروس وسبل الوقاية منه والعديد من المزايا … التي كان للعولمة دور كبير فيها.
بالإضافة إلى ما سبق تبين أن استحواذ الصين على أغلب الاستثمارات العالمية كان له دور سلبي في هذه الأزمة، إذ نجد أغلب الاستثمارات الغربية مستقرة هناك وهو ما سبب أزمة عالمية في استيراد الوسائل الوقائية والطبية، بالنظر إلى كون الصين نفسها دولة منكوبة. بينما لو تم تأهيل اليد العاملة بدول إفريقيا مثلا، خاصة إفريقيا جنوب الصحراء الأقل تأثرا بالفيروس لكانت لعبت دورا مهما في هذه الأزمة، فتركيز الاقتصاد العالمي في مناطق معينة أمر لعب بشكل سلبي في هذه الجائحة التي أصابت العالم دون تمييز.
لا شك أن وباء كورونا المستجد «كوفيد- 19» سيحدث تغييرات كثيرة على مستوى العلاقات الدولية، قد يعود بنا إلى زمن الدولة الوطنية وبداية أفول الاتحادات ولو بعد حين، خصوصا مع ظاهرة قرصنة الطائرات الحاملة للمعدات الطبية، وهو ما قد تنتج عنه مشاكل سياسية خطيرة بين الدول بعد مرور هذه الجائحة ومراجعة الدول لحساباتها. كما أن قيادة الولايات المتحدة الأمريكية للعالم ستكون على المحك، بعد هذه الأزمة التي أعجزتها وتركت الصين ترتع في المجال الدولي، بتقديم المساعدات الاستشارية والطبية المتعلقة بفيروس كورونا المستجد للدول في جميع أنحاء العالم، وسط اتهامات للصين بإخفاء المعلومات الكافية أثناء تفشي الوباء داخل أقاليمها، وعدم تحذير الدول بخطورته من أجل أخذ التدابير والاحتياطات اللازمة، وهو الأمر الذي ينذر باصطدام القوتين الكبيرتين في العالم قد يغير موازين القوى ليس بالضرورة لصالح الصين، لكنه لن يكون لصالح الولايات المتحدة التي استفردت بالعالم لسنين طويلة، حيث بدأت الجولة الأولى للمعركة داخل منظمة الصحة العالمية بتجميد الولايات المتحدة الأمريكية تمويل المنظمة، واتهامها بالتعتيم والانحياز للصين.



