
شاهدت مقطعا على تطبيق تيكتوك يظهر فيه أحد شيوخ الأدسنس الذين يقتاتون من الترويج للضلال والظلام عبر قنوات «روتيني اليومي الحلال». يقول «الداعية»، في المقطع التيكتوكي، إن من يستمع إلى الموسيقى كمن يصب في أذنه رصاصا حاميا. هذا الرجل كان قد دعا في «خوار» سابق له إلى ضرورة أسلمة العلوم الطبيعية والفيزيائية في ما عُرف لاحقا بالفيزياء المسلمة. وهو الأمر الذي أثار موجة من السخرية والاستهزاء من أمة سلمت عقلها لمن لا عقل له.
حديث «الداعية» حول تحريم الموسيقى ودعوته إلى نبذ كل مظاهر الفرح والحياة والاكتفاء باللطميات والبكائيات، جعلني أفكر أولا في معنى كلمة داعية وما المقصود منها تحديدا؟ كما هو معلوم، فالدعوة إلى دين جديد موجهة بالأساس إلى أمة وثنية أو على دين آخر. وما دمنا في المغرب على ملة الإسلام منذ أكثر من ألف عام، فما الحاجة إلى وجود دعاة بيننا؟
يقودنا هذا التساؤل إلى أزمة بناء المفاهيم التي يعاني منها العقل المغربي، حيث تختلط علينا التصورات والمسميات مما يدفعنا إلى التخلي عن المنطق والارتكان إلى الخرافة. تبادر إلى ذهني تساؤل آخر حين تذكرت خطاب الملك محمد السادس، قبل سنوات، الذي وجه فيه رسالة واضحة لنبذ التشدد والغلو في الدين. فكيف يسير العقل المغربي بسرعتين؟ كيف أن قائد البلاد يدعو في كل مناسبة إلى التمسك بالإسلام الوسطي المعتدل والحفاظ على الموروث الديني المغربي المتفرد البعيد كل البعد عن الظلامية والجهل.. في حين أن باقي مكونات الشعب مستمرون في الإنصات إلى مروجي الخرافة وتجار الموت؟
سؤال كان ليجيبنا عنه محمد أركون الذي كرس حياته لتفكيك السردية الدينية وإعادة بناء المفاهيم. ولعل أفضل مثال على فوضى التدين الشكلي ما يقع اليوم في سوق الماشية من سباق ماراطوني لاقتناء رؤوس الأغنام في تحايل بليد على السلطات. كيف يعقل أن الرأي العام، قبل أشهر من القرار الملكي بإلغاء شعيرة الأضحية، كان يشتكي من الارتفاع المهول في أسعار الأضاحي ويبكي في زاوية الفقر والحاجة.. أصبح اليوم قادرا على شراء «حولي بالديطاي»؟
إن هذه الفوضى تدفعنا للتفكير في سيكولوجية الجماهير وخطورة عقلية القطيع. فهل تصنع العامة التغيير؟ أو أن التغيير كان دائما حكرا على النخبة؟ ما السبيل إلى قطيعة بنيوية مع أمثال شيخ الفيزياء المسلمة؟ وكيف أن الثورات الفكرية، التي غيرت وجه التاريخ ودفعت بالإنسانية إلى عصر الابتكار والابداع، كان مصدرها دائما قمة الهرم وليس قاعدته؟ لماذا ينتقد الشعبويون النخبوية ويعتبرونها حجر عثرة أمام رغبتهم في السيطرة على عقول الجماهير المغيبة؟ هل كانت المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، ستعرف نهضة فكرية وثقافية شاملة لولا الإصلاح الديني الذي فرضه الأمير محمد بن سلمان؟ هل نحن اليوم في حاجة إلى إرادة نخبوية حازمة لفرض تغيير حقيقي في المغرب؟
لطالما شكلت النخب التغيير الفكري ووجّهته أكثر من عامة الناس. على مر التاريخ، غالبا ما نشأت التحولات الفكرية المجتمعية – سواء في العلوم أو الفلسفة أو السياسة – من أفراد أو جماعات تتمتع بإمكانية الوصول إلى التعليم والموارد والتأثير. وتمكنت هذه النخب، بمن في ذلك العلماء والقادة الدينيون والشخصيات السياسية، من نشر أفكار جديدة من خلال مؤسسات مثل الجامعات ودور النشر والصالونات، مما وجّه الخطاب العام.
لطالما فضلت بنية الحياة الفكرية أصحاب الامتيازات، وكان الوصول إلى الكتب والتعليم الرسمي ومنتديات النقاش – ولا يزال في كثير من الأحيان – محصورا في شريحة صغيرة نسبيا من المجتمع. نتيجة لذلك، لم تكن الحركات الفلسفية الكبرى، مثل عصر التنوير، أو النماذج العلمية، مثل فيزياء نيوتن، ظواهر شعبية، بل نشأت في أوساط النخبة قبل أن تنتشر تدريجيا في أوساط الجمهور الأوسع. حتى في المجتمعات الديمقراطية، غالبا ما تُشكل مراكز الفكر والمؤسسات الأكاديمية ووسائل الإعلام المؤثرة الأطر الأيديولوجية التي يتشكل ضمنها الرأي العام.
إضافة إلى ذلك، عادة ما تنطوي عملية إضفاء الشرعية على التغيير الفكري، أي تحديد الأفكار ذات المصداقية أو القيمة، على رقابة مؤسسات النخبة. على سبيل المثال، تلعب الجامعات المصنفة والشهادات الأكاديمية دورا حاسما في تحديد الأصوات المسموعة والمحترمة. وهذا يُعزز نموذجا تنازليا لنشر المعرفة.
في حين أن الحركات الشعبية يُمكن أن تُساهم في التغيير، إلا أن أفكارها غالبا ما تكتسب زخما فقط بعد إقرارها أو تبنيها من قِبل جهات فاعلة من النخبة. على سبيل المثال، سلطت حركات الحقوق المدنية الضوء على قضايا حيوية، لكن التحولات التشريعية والثقافية غالبا ما حدثت فقط بدعم من النخب السياسية والفكرية.
باختصار، التغيير الفكري ليس عملية ديمقراطية بحتة يتم تنظيمها إلى حد كبير من قبل أولئك الذين لديهم القدرة على تشكيل الخطاب والتأثير على الهياكل التي تتحكم في المعرفة، مما يشير إلى أن النخب تلعب دورا مركزيا في تحديد تطور الأفكار. نحن اليوم بحاجة لنخبة تفكك لنا العقل المغربي الذي رفض بالأمس اقتناء خروف بأربعة آلاف درهم، ليتدافع اليوم لشراء «دوارة» بسطاش ألف ريال..





