شوف تشوف

الرأي

التصلب الشرياني والتصلب الروحي

بقلم: خالص جلبي

في محاولة لتحليل أسباب الصراع الذي نشب في البلقان، نرى ثمة أربعة أسباب رئيسية مباشرة مهدت لهذا الانفجار المروع:
1ـ لعل في رأس القائمة ذوبان الجليد الروسي وانحسار الاتحاد السوفياتي من مسرح التاريخ كقوة عظمى وعامل توازن عالمي، وانتهاء حقبة الرعب النووي، مما حرك المشاعر القومية المحتبسة لتنطلق من جديد، وفي حياة تيتو كان اشتعال حرب كالتي حدثت ورأيناها يعني حربا نووية بين القوى العظمى، وما فعله غورباتشوف وأقدم عليه في أقصى روسيا الباردة، فساح فيها الثلج وذاب وأغرق مناطق كثيرة بالدم وليس الثلج والماء والبرد!
يقول صاحب كتاب (الصراع على القمة ـ HEAD TO HEAD) الخبير الاقتصادي (لستر ثارو -LESTER THUROW): «لو إن الإرادة الفكرية توافرت هناك لكان من الممكن أن تستمر الشيوعية لفترة طويلة، وعلى وجه التحديد عندما كان جنكيز خان على وشك أن يغزو أوروبا فإنه استدار واختفى في آسيا الوسطى، ومن نواح كثيرة فإن الاختفاء المفاجئ للشيوعية لا يقل غموضا عن اختفاء جنكيز خان؛ فعندما أضعف غورباتشوف سلطة الجهاز القديم للتخطيط المركزي خلق أوضاعا استحال معها العودة إلى الماضي، ذلك أن ما حدث كان أكثر عمقا من فتح الباب أمام التغيير، فما أن فتح الباب مجرد فرجة حتى تمزق النظام لا على يد غورباتشوف، بل على أيدي آلاف المواطنين السوفيات الذين أصبحوا ببساطة غير مستعدين للتعاون معه، وعندما تلاشى تعاونهم الطوعي مع النظام القديم تلاشى النظام نفسه».
2ـ انفجار هذه المشاكل القومية يرجع في خلفياته البعيدة إلى أنها كانت مشاكل مثل الجمر تحت الرماد تنتظر من يوقظها، فهي مشاكل قديمة تم تطويقها والسيطرة عليها بالقوة لا أكثر، تماما مثل الخراجات المزمنة في الجسم تنز القيح بالتقسيط حسب الظروف.
3ـ يعتبر العنصر الاقتصادي في تباين توزع الثروات بين أوروبا الغربية ودول أوروبا الشرقية من المحرضات العميقة على طموح الشعوب المسحوقة اقتصاديا للمطالبة بحصة في هذه الثروة، لتأخذ انفجارها في صورة من الصور، ويرى المفكر الفرنسي (جاك أتاليي، مستشار الرئيس الفرنسي الأسبق ميتران) في كتابه «آفاق الغد»، أن هناك خمسة مخاطر تهدد الجنس البشري في القرن القادم، بعضها تضاءل مثل الخطر النووي، وبعضها ازداد حدة مثل تباين الثروة في العالم بين الشرق والغرب، الذي يعتبره أنه سيكون المفجر الأكبر في العصر المقبل بين فقراء العالم وأغنيائه.
4ـ الصدع التاريخي في هذا المكان يعتبر مثل خطوط الزلازل الجيولوجية، وهي هنا من طبيعة إنسانية، حيث تشكلت ثقافة كراهية مستحكمة عبر القرون، ولم يتم تجاوز الأزمة النفسية فيها وهو شبيه بما يحدث في التصلب الشرياني.
(التصلب الروحي PSYCHOSCLEROSIS)، وكما يعرف جراحو الأوعية الدموية ظاهرة تعتبر بمثابة الكارثة لشرايين الإنسان، وهي ظاهرة (التصلب الشرياني ـ ARTERIOSCLEROSIS)، حيث تتخشب الشرايين فلا تعود تتمتع بهذا الوجه الصقيل في بطانة الشرايين الداخلية، بل يكون (الدخان) بشكل خاص وتراكم الشحوم قد حول الوجه الصقيل إلى خشن دميم والمرونة إلى يبوسة، وقدرة التفاعل مع الأحداث ارتخاء وانبساطا، وإلى جمود وصلابة، فلا تعود الشرايين تلك الأنسجة الحيوية الرائعة، بل خشب عتيق وزجاج قذر سريع العطب، والنفس الإنسانية الاجتماعية تتعرض لمثل هذه الظاهرة عندما تجمد على التاريخ، وتتيبس على أحداث معينة، فتدخل في حالة (الصلابة والتخشب الروحيين PSYCHOSCLEROSIS))، فلا يستطيع الضمير تجاوز هذه الأحداث واعتبارها من الماضي الذي فات ومات، وأكثر ما فيه هو درس العظة والعبرة أن لا يتكرر، ولكن يبدو أن النفس الإنسانية تقف أمام هذه العتبة فلا تستطيع تجاوزها فتحتويها الحادثة وتقع تحت تأثيراتها السلبية، لا العكس؛ عندما تقفز هي فوق الحادثة فتحتويها وتتجاوزها. والذي يحدث في ظاهرة (التصلب الروحي التاريخي) أن الجماعة تبقى نفسيا عند الحدث فلا تنساه وتتشبع به، فيقودها في زوبعة نفسية وإعصار روحي إلى الكوارث من جديد، وهذا الذي حدث للصرب، فهم ما زالوا يعيشون عام 1389م ولو تجاوزه الزمن قرونا بين ذلك كثيرا؛ فهم لا يزالون يقاتلون مع لازار (الملك الصربي الذي قتل في معركة أمسل فيلد أو قوص أواه بالتعبير التركي)، في الحين الذي يودع العالم سيف لازار ودرعه العتيقين، بل يودع العالم العهد العتيق برمته. مثل ذلك أيضا عند اليهود وقلعة الماسادا، التي يحتشدون فيها كل عام ويصرخون في الجنود الرومان، أن هلموا إلينا وليست ثمة سوى أشباح التاريخ.
يبقى النضج النفسي هو الولادة الجديدة في عالم الفكر الجديد، ووضع الأحداث في مكانها وفي حجمها، بدون تهويلها وعدم التجمد عندها، ويبدو أن الكثير من أفكارنا يجب أن نعتبرها كائنات معرضة للموت، وإذا كان العزيز علينا نسرع في دفنه عند موته، فهذا القدر ينطبق أيضا على الأفكار الميتة، التي يجب أن ندفنها تحت التراب، ونضع عليها علامة لتاريخ الوفاة ومكانها، أو لعل الأفضل أن نواريها التراب ليأكلها النسيان إلى الأبد، وهكذا فالموت حق وهو مفيد جدا كما نرى، لأن رسوخ الأفكار الخاطئة لا يكنسه إلا جبروت الموت، ليخرج جيل جديد بفكر جديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى