الرأي

المختار ولد أباه مديرا للإذاعة الوطنية

في تفاصيل منسية أن أول عمل قام به الكاتب الدبلوماسي محمد قاسم الزهيري، بعد تعيينه سفيرا للمغرب في موريتانيا، على خلفية تطبيع علاقات البلدين الجارين عام 1969، أنه سأل عن صديقه الباحث الشغوف بالأدب وعلوم الدين والدراسات الإسلامية، المختار ولد أباه.
لا أجزم إن كان التقاه في حينه أو بعده. لكن الزهيري الذي سبق أن عمل مديرا عاما للإذاعة، قد يكون رغب في الاستئناس بأفكار ونبرات الشاعر ولد أباه الذي اشتغل بدوره مديرا للإذاعة المغربية في مطلع ستينيات القرن الماضي. واحتفظ الجيل الأول من الإعلاميين والتقنيين والإداريين بذكريات طيبة عن مروره بدار الإذاعة، وهي بصدد الانفصال كليا عن إدارة البريد وبناء شخصيتها المتميزة، وكذا الإعداد لانطلاق البث التلفزيوني للمرة الأولى في تاريخ البلاد.
ينتمي المختار ولد أباه إلى الرعيل الذي ناضل من أجل استقلال بلاده موريتانيا، فقد تعرض للسجن بسبب مواقفه المناهضة للوجود الاستعماري الفرنسي، وكان إلى جانب شخصيات موريتانية وطنية يلوذون إلى المغرب، كلما تعرضوا إلى مضايقات، من بينهم الداي ولد سيدي بابا الذي استقر في المغرب وعمل وزيرا للشؤون الإسلامية، ثم انتخب رئيسا للبرلمان، من موقعه القيادي في التجمع الوطني للأحرار. إضافة إلى حرمة ولد بابانا الذي عاد إلى نواكشوط، ليتزعم حزبا سياسيا بعد إطاحة نظام الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع. وكذا أمير الطرارزة فال ولد عمير، الذي عهد إليه بوزارة الشؤون الصحراوية في المغرب في وقت لم يكن فيه أثر لأي تنظيم يطالب بعودة الساقية الحمراء ووادي الذهب، عدا الدبلوماسية المغربية التي سجلت الملف في وثائق رسمية للأمم المتحدة في مطلع ستينيات القرن الماضي، ودافع الداي ولد سيدي بابا عن عدالة قضية الوحدة الوطنية بقوة وشجاعة.
خلافات المختار ولد أباه مع الرئيس الموريتاني الراحل المختار ولد دادة، جعلته يختار طريقه، فقد استقال من الحكومة التي كان فيها وزيرا للصحة والتعليم بسبب رفضه إملاءات السلطات الفرنسية على حكومة بلاده. واستقر به المقام في المغرب، حيث التحق بمهمة في الديوان الملكي. وروى لي زملاء إذاعيون أن شغف المختار ولد أباه بالرياضة الفكرية في الشطرنج، أسعفه في إدارة العمل الإذاعي بأناة وصبر، في فترة شهدت ذروة الاحتقان بين المعارضة والقصر. بعد أن كان الدكتور المهدي المنجرة أنهى مسؤوليته مديرا عاما للإذاعة، جراء حساسيات المرحلة، بخاصة بعد إطاحة حكومة رئيس الوزراء القيادي البارز في الاتحاد الوطني عبد الله إبراهيم.
من يذكر أن شخصية موريتانية وقع عليها الاختيار لتدبير الملف الإعلامي في واجهته الرسمية في فترة دقيقة، تزامنت وتولي الرجل الفاضل محمد الشرقاوي مسؤولية وزارة البريد. بينما كان التعيين على رأس جهاز الإذاعة يخضع لمعايير الثقة والاقتراب إلى مراكز القرار السياسي. ما جعل المستشار أحمد بن سودة يضع بصماته على التجربة الإذاعية، كما اختير عبد الله غرنيط للمهمة نفسها. وقد لا يذكر كثيرون أن مؤرخ المملكة السابق عبد الوهاب بن منصور شغل المنصب ذاته. ما يترجم حظوة الدكتور المختار ولد أباه، الذي كان استثناء في انتسابه ومرجعيته في معارفه وكفاءته العلمية، وحرصه على احترام اللغة العربية كأداة تربوية في المشهد الإعلامي.
لم يتم اللجوء إلى اللغة العامية في تقديم الأنباء والتعاليق السياسية إلا عند حدوث أزمات، اقتضت مخاطبة الجمهور الواسع كما في حالات التعبئة إبان أطوار الحرب المغربية – الجزائرية خريف 1963، ثم لاحقا عبر مواجهات إعلامية مع النظام الليبي الذي كان يتزعمه العقيد معمر القذافي، وسمع الجمهور للمرة الأولى عن اسمه المصغر ازدراء. أي «القذيدفي» كما توالت صفة «البكباشي» التي كانت لصيقة بالرئيس جمال عبد الناصر بعد تورطه في حرب الرمال، منحازا إلى الجزائر.
تعددت المهام والمسؤوليات الفكرية والسياسية التي قام بها المختار ولد أباه، في موريتانيا والمغرب ودول عربية شقيقة. وإذ يعود له الفضل في تأسيس جامعات ومعاهد في بلاده، فقد أسهم إلى جانب كفاءات علمية شرقية ومغاربية في التدريس في «دار الحديث الحسنية»، وهو الباحث الذي خص «تاريخ أدب التشريع الإسلامي في موريتانيا» بدراسات عميقة. وكتب عن أصول الفقه المالكي ومواكب السيرة النبوية، علاوة على تاريخ النحو العربي في المشرق والمغرب، وترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية، من دون إغفال ميله إلى قرض الشعر والافتتان بالأدب الأصيل، والإلمام بلغات عدة، من بينها العبرية والسريانية.
بيد أن جهوده في دعم خيارات «اليونسكو» التي يعتبر أحد خبرائها البارزين في إعادة الاعتبار للمآثر التاريخية ومظاهر التراث الحضاري في المغرب وموريتانيا وبلدان عربية وإفريقية، أفضت إلى إنجازات ملموسة، وكذلك الحال لدى توليه مسؤوليات في منظمة العمل الإسلامي مستشارا وباحثا وصاحب رؤية عميقة.. لكن دلالات تعيينه مديرا للإذاعة الوطنية إنما تعكس نوعا من الحرص على الدور التثقيفي لهذه المؤسسة، وإن اختلفت الآراء حول تقييم أدائها في فترات الجفاء السياسي.
ترى هل رشف قاسم الزهيري من عربات المختار ولد أباه، أم أن الرغبة المتبادلة في ردم هوة ذلك الجفاء الإقليمي احتاجت إلى جهود مضنية وزمن أكبر؟ فالوفاء للقيم والمبادئ من السمات التي ميزت تجربة وعطاءات الكاتب الموريتاني ذي التوجه الإنساني المختار ولد أباه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى