الرأي

المساواة.. من الصراع إلى التكامل

أما في الجانب الاقتصادي: فمن فلسفة الإسلام أن تُقيد المساواة بالعدالة، فقد كان الناس ولازالوا متفاوتين في إمكانياتهم وأنشطتهم، فإن ذهبت توزع ثمرات جهودهم المتفاوتة عليهم جميعا بالتساوي، فذلك هو الظلم بذاته وإن بدا في الظاهر أنها المساواة المطلوبة.
ومن هذا المنطلق تقرر الشريعة الإسلامية، أن سائر أنواع الأموال التي لم تدخلها الصَّنعة وإنما تحققت قيمتها المالية بصنع الله وتكوينه، يجب أن يتساوى الناس جميعا في امتلاكهم لها وتمتعهم بها، لأن العدالة لا تتحقق إلا بذلك: كالمعادن وغيرها من الثروات الطبيعية وسائر المدخرات، أما الأموال التي دخلتها يد الصَّنعة بحيث تحققت قيمتها المالية بجهد الإنسان وصنعته فملكيتها رهن بتصنيعها، والعدالة في هذه الحالة لا تكون مقيدة بالمساواة، بل رهن بإتباع مقياس الجهود والتنافس.
وأما المساواة في الجانب السياسي، فينبغي أولا مراعاة ما يقتضيه المنطق من أن هناك شروطا يجب توفرها فيمن يتحمل مسؤولية العمل السياسي، وإنما تُلاحظ المساواة وضرورتها بعد استكمال الجامع المشترك من تلك الشروط، فعلى سبيل المثال فإن اشتراط صفة الإسلام فيمن يتولى منصب الخلافة أو الإمارة العظمى أو ما يسمى برئاسة الدولة، إنما اقتضته ضرورة أن ما يسمى بالمجتمع الإسلامي لا يتحقق وجوده إلا بهذا الشرط، فمن التناقض البَيِّن الحاد أن نؤكد إسلامية المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية، ونؤكد في الوقت ذاته بأنه سيان أن يكون رئيس هذه الدولة مسلما أو غير مسلم، كما لو قال قائل: سيان أن يكون رئيس الولايات المتحدة الأمريكية أمريكيا أو مسلما عربي الجنسية، ومثل ذلك اشتراط الذكورة لتحقق جوهر المنصب ذاته.
إن طبيعة كثير من المهام التي يجب أن يتحمل مسؤولياتها صاحب هذا المنصب تتنافى مع الأنوثة من حيث كونها أنوثة، لا من حيث العجز أو الضعف أو نحو ذلك، كاشتراط الذكورة فيمن يخطب الناس ويَؤُمهم في صلاة الجمعة، إن هذا الاشتراط آت من ضرورة الانسجام والتوافق بين هذه الصلاة ذات الطابع المتميز، وبين الشخص الذي يخطب الناس ويؤمهم فيها، وكم من رجال لا تصلح إمامتهم فيها على الرغم من كونهم رجالا، لأن ضرورات الانسجام بين واقع أحوالهم وطبيعة هذه الصلاة والحكمة منها لم تتحقق على الوجه المطلوب.
أما في ما دون ذلك من المناصب فلا يشترط فيها الإسلام ولا الذكورة، إذ أنها وظائف تنفيذية على الأغلب تتم تحت رعاية رئيس الدولة، وكما يقول الدكتور البوطي في كتابه القيم «الله أم الإنسان ؟أيهما أقدر على حماية حقوق الإنسان».
«وبالجملة فإن الذي يؤهل الإنسان لمناصب في ميزان الشريعة الإسلامية، التأكد من صلاحيتة وقدرته على النهوض بأعبائها، وأمر الذكورة والأنوثة بحد ذاته لا يلعب أي دور في هذا المجال».
أما أهلية الشورى فإنها متاحة للجميع، بشَرطي العلم والأمانة كما اشترط العلماء، وهكذا فكلا الجنسين متساويين في ممارسة هذا الحق.
وعموما فإن المساواة في الجانب السياسي في الإسلام تظل وفية للجوهر السياسي، ومتى كانت كل هذه الشروط دون دور في إيجاد جوهر البنيان السياسي فإنها تختفي، ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأمراء من قريش وما يشترط فيهم: «ألا إن الأمراء من قريش ما قاموا بثلاث، ما حكموا فعدلوا وما عاهدوا فوفوا وما استرحموا فرحموا، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين).
من هنا نرى كيف ضمن المنهج الاسلامي بشكل معقول ومحكم المساواة المنطقية والحكيمة في الكثير من مجالات الحياة، الشرعية، الاقتصادية، الاجتماعية، فضلا عن السياسية، غير أن ما أن ما يلفت الأنظار ويثير الفضول في هذا الموضوع هو قضية المساواة بين الرجل والمرأة، وتعالي المطالبات بمساواة تامة بين الجنسين، وهو ما يطرح خاصة عند المسلمين إشكاليات يفتعلها بعض دعاة المساواة الكاملة، تهم المساواة في الإرث، والأهلية في كامل الأحوال الشخصية، وما يتبع ذلك من سائر شؤون الحياة، وهي لعَمري دعوات تخلو من النظرة المنطقية والرؤية العِلمية العَملية لعمق المسألة والمتطلبات الحقيقية للمجتمع المسلم خاصة، وقد نرى ما بات يعانيه المجتمع المسلم من مشكلات اجتماعية وتصاعد للصراع بين افراد المجتمع من الجنسين، مع ما يتبع ذلك من نفور متبادل وتوجس من الزواج مثلا، فشهدنا تزايد نسب العزوف عن الزواج، وارتفاع نسب الطلاق أثناء الزواج، وما ذلك حسب الكثير من المتتبعين وهو ما تثبته الوقائع، إلا جراء سيادة أجواء الصراع والتنافس بين المرأة والرجل، في ظل اعتداد المرأة خاصة بحقوقها انطلاقا من منطق المساواة غير المرن، ومع وجود منظمات وجِهات تذكي الخلافات وتُصعِّر من نيران الصراع، وكل ذلك بدعوى المساواة والدفاع عن حق المرأة، فإذا بهم يخربون بيتها ويجلبون عليها الويلات، وهو ما يؤثر على الأسرة والمجتمع سلبا، لنجد أن المساواة الحرفية بين الجنسين دون مراعاة منطقية للاختلافات الطبيعية بيولوجيا ونفسيا، لا تسهم إلا في اختلال العلاقة الطبيعية بين الرجل والمرأة وإذكاء المزيد من الصراعات والتنافس العقيم، والحال أن منطق المساواة الذي يُفضل أن يحكم العلاقة بين الجنسين يجب ان يتسم بالتكامل من حيث الحقوق والواجبات لكلا الطرفين و احترام دور كل منهما.
بهذا فالعلاقة التي تؤطر ما بين الرجل والمرأة، لا يجب أن تظل على الصراع والندية وتقاسم الحياة بالميليمتر، بل يجب أن تنحو منحى أكثر وفاء للطبيعة ومنطق التكامل الذي يطبع العلاقة بين كل مخلوقات الله، والذي يتسم بالزوجية والتجاذب والتعاون، بدل الفردانية والتنافر والتصارع، ولقد قال عز من قائل: «ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون» سورة الرعد آية 3، وبالتالي يمتلك كل منهما لخاصيات محددة مستقلة لكنها تتكامل، فتكمل التي للذكر تلك التي للأنثى ولا تكون الحياة إلا بهما معا، لتأخذ الحياة مسارها الطبيعي والمتوازن، وعلى هذا المنطق يتأسس منهج التكامل الذي يجب أن يحكم المساواة بين الجنسين من وجهة نظر الطرح الاسلامي لقضية المساواة، وهو منهج يسعى إلى أَنسنَة قيمة المساواة والنأي بها عن أتون الصراعات، إلى رحاب التآلف وتكامل الأدوار بين الرجل والمرأة من أجل أسرة متماسكة ومجتمع أكثر قوة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى