حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

الرأي

الموت الأسود (3)

خالص جلبي
تم عرض خارطة تفصيلية في كتاب «انسكلوبيديا تاريخ العالم»، عن الطريق الذي سلكه الطاعون أثناء انتشاره في أوربا (ENZYKLOPAEDIE DER WELT GESCHICHTE PAGE 409 HOLLE VERLAG UWE K . PASCHKE)، وتمت الإشارة إلى أن زناد الحريق الأول بدأ من شبه جزيرة القرم، فما الذي حدث في ذلك التاريخ من مطلع عام 1347م؟
بدأ المرض مثل بؤر الزلزال الأرضي وحلقات التصدع في القشرة الأرضية يتحرك مع حركات السفن والموانئ وتكاثر الجرذان في أقبية السفن المتحركة، إلى مدن أوربا القذرة التي لا تعرف نظام التصريف الصحي، ولا نظام الحمامات الإسلامية ولا الوضوء ولا الاستحمام، بل كانت تلجأ إلى إغلاق الحمامات؛ فأوربا لم تعرف نظام الحمامات إلا بشكل متأخر وحتى الآن توجد بعض البيوت في ألمانيا ليس فيها حمام، وكان صاحب القلعة الكبيرة (الإقطاعي) له كرسيه الخاص لقضاء الحاجة (فتؤخذ من تحته لترمى في الوقت الذي كانت الحمامات شيئا طبيعيا في الحياة الإسلامية).
هناك في القرم حصلت معركة سخيفة بين التتار وقلعة تحصن بها جماعة من أهل البندقية، الذين أسسوا مستعمرات لهم خارج إيطاليا، وتفشى الطاعون في التتار المحاصِرين فاعتراهم الغضب، فقاموا بشن أول حرب (بكتريولوجية) ربما في التاريخ الإنساني، حيث رموا بالمنجنيقات هذه المرة ليس الصخور والحجارة؛ بل الجثث المتعفنة المصابة بالطاعون! فأصيب البنادقة بالرعب مرتين، الأولى من مفاجأة الجثث وهي تتساقط على رؤوسهم، والثانية من رائحة الموت المتفشية مع الطاعون؛ ففروا على وجوههم بسفنهم يحملون الموت إلى كل المرافئ التي وصلوها، وبذلك نشروا المرض في كل أوربا؛ فلم ينته عام 1352 م إلا وكانت مدن أوربا من البندقية وفرانكفورت وباريس ولندن وكراكاكو والدانمارك والنرويج قد طمها البلاء وقوضتها المصيبة. والطاعون ليس أكثر من مرض (الرشح)، الذي ينتقل عن طريق التنفس والعطاس والسعال البسيط من الإنسان إلى الآخر، ولكنه يحمل الموت في أيام قليلة!
وكما حملت السفن جرذانها؛ فإن الجرذان حملت في ظهورها البراغيث اللعينة، التي تحمل بدورها في دمها العصيات الغليظة مدورة الطرفين مسببة المرض والتي لا ترى إلا بالمجاهر مكبرة آلاف المرات، والتي لم تكن لا أوربا ولا العالم قد سمع بها، وكان على العالم أن ينتظر طويلا كي يبدأ الهولندي (لوفنهوك)، بائع القماش، صقل عدساته لرؤية العالم السفلي تحت أقدامنا، ولنكتشف القارة المجهولة التي تحيط بنا من كل صوب وهي أقرب إلينا من حبل الوريد ولكن لا تبصرون. وكان أمام العالم أن ينتظر كل القفزة العلمية الحديثة فالموضوع ليس مجاهر تكبر فقط؛ بل تقدم كامل في تقنيات حضارية متضافرة لإنجاز علم الحضارة الحالية.
ومع استفحال المرض تدفق المشعوذون من كل حدب وصوب، واخترعت مئات الوصفات التي تزعم الشفاء من المرض؛ فلم يترك شيء غريب ومستهجن إلا وجرب للخلاص من هذا المرض الذي دخل الدم والأحشاء والعظام.
كل أنواع النباتات والطحالب من نقيع لحاء الشجر والقذر والعذرة، أو غطس المرضى في دماء العجول المذبوحة، أو كتابة الرقية للأرواح والنجوم والكواكب، واستخدام علم الفلك والجن والأرواح والأشباح، كذلك الفصادة والحجامة، والدوش البارد والساخن، ومركبات اليود والبزموت والزرنيخ والزئبق، وضمادات الخردل والحشيش والأفيون، أو الحقن والزرع، وباختصار لم تبق مادة مشكوكة إلا وجربت، ولا عصير أو مستقطر أو محلول أو نقاعة أو خلاصة أو مزيج إلا واستخدم للخلاص من هذا المرض الذي يسري في جسد ابن آدم مسرى الدم، واليوم يمكن السيطرة عليه بجرعة من السولفا أو الستربتومايسين أو التتراسيكلين، وتتوفر في كل صيدلية على وجه الأرض ولو في البوادي والأرياف، ولكن هذه المركبات هي عصارة أرضية رهيبة من التقنيات والتراكم العلمي.
لم يكن مرض الطاعون هو الوحيد في معركة الإنسان ضد الأمراض في التاريخ، فسلسلة الأمراض في هذا الموضوع لا تنتهي، بين الجذام الذي كان يفضي بصاحبه إلى الإعدام الاجتماعي، من خلال مزرعة عزل بشرية (أذكر من مشفى الأمراض العقلية خارج دمشق، بجانبها محمية خاصة للمجذومين بعزل كامل)، أو الكوليرا التي كانت تنقل إلى المقابر آلاف الجثث في هامبورغ في نهاية القرن التاسع عشر، أو مرض الزهري أو مرض الحب الفرنسي (SYPHILIS) الذي عصف بالبشرية ما يزيد عن أربعة قرون، بدون معرفة المتسبب الأساسي في هذا المرض. وبالطبع كانت الأرواح والكواكب متهمة بإحداث هذا المرض، حتى كشف الغطاء أمام عيني (شاودين) في مطلع القرن العشرين، ومن خلال تطوير المخبر والمجهر، الذي هو بدوره حصيلة القفزة العلمية برمتها، حيث رأى تلك (البريميات – اللولبيات الشاحبة (Treponema pallidum والتي تشبه حبل المعكرون الملفوف، أو السلك الملفوف لفتح أغطية وسدادات الأوعية الزجاجية، ثم المثير في الوصول إلى الدواء من خلال رحلة رهيبة لا تصدق لاكتشاف الدواء النوعي الذي يخلص البدن من الجرثوم ولا يفعل للجسم شيئا، كما حصل مع (باول إيلريش) في 606 من المحاولات كي يكتشف مركب (الزرنيخ) حتى يصبح شافيا وبجرعة واحدة (مركب السلفارسان)، وعندما أعطي اسمه (606) كان رمزا للمحاولات المئوية المكررة قبل الوصول إلى الرصاصة السحرية لقتل الجرثوم!
إن مرض الطاعون (PEST) الذي انفجر قبل فترة في القارة الهندية، يعطينا حزمة من الحكم والأفكار والتأملات، فهذه المقالة لا تستهدف الترويع، كما لا تبغي الاستخفاف، كل ما تريده وضع المرض في إطاره الطبيعي والتاريخي والإمراضي، بل والثقافي الحضاري، فهي إذن لم تكتب للأطباء والمتخصصين في المخابر، أو المتبحرين في علوم المناعيات وجراحة الكروموسومات وفصائل الجراثيم وقبائل الفيروسات، بل هي كتبت بالدرجة الأولى من المنظور الثقافي والفلسفي ورفع مستوى الوعي. في مدى خطر هذا المرض ومعنى انتشاره، ليس لوحده، بل حزمة من الأمراض المرتدة المعندة مثل السل، بعد أن خاله الناس جميعا أنه أصبح في ذمة التاريخ يرقد في بطون الكتب. وبالطبع يفتح هذا الباب أمام فلسفة انتشار المرض ويقظته من رقاده بعد كل هذا الهجوع عبر القرون، فإذا به مثل (دراكولا) ينهض شبحا يمتص دماء ضحاياه ليحولهم إلى أشباهه، وهي خرافة حشيت بثقافة المواطن الأوربي العادي بقصة مصاص الدماء دراكولا، الذي مات ولكنه يخرج من عالم الأموات شبحا يمص دماء الناس فيتحول الضحية إلى دراكولا جديدة وهكذا.

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى