
يسرا طارق
عاش المغاربة قاطبة ليلة جمعة لا تنسى، وفي المدن والقرى، وفي كل مكان، خرجوا للاحتفال بقرار مجلس الأمن الدولي 2797 التاريخي. إنها لحظة وطنية مشهودة، أبان المغاربة فيها عن أن قضية الصحراء هي أكثر، بالنسبة لهم، من قضية حدود، بل إنها قضية وجود يجددون فيها ارتباطهم بعمقهم التاريخي، وتجذرهم في كل حبة رمل من رمال الصحراء. وأنا على يقين بأننا كلنا، في الليلة المشهودة، استحضرنا هذا المسار الطويل الذي دام عقودا من الزمن في التشبث بالحق والاستماتة في الدفاع عن وحدة التراب الوطني، واجه فيها المغرب، قيادة وشعبا، مناورات الخصوم، وأسلحتهم، ومكرهم، وقدرتهم على النفخ المتواصل في الباطل، وصرف أموال طائلة لدعمه. واجه المغاربة كل هذا بالصبر والإصرار والاستعداد الدائم للتضحية، وكان إيمانهم الراسخ بعدالة قضيتهم هو حليفهم الأكبر في ذلك، رغم المحن الكبيرة التي عشناها، والشهداء الذين سقوا بدمائهم الطاهرة رمال الصحراء، ورغم الابتزاز الذي تعرضنا له طيلة عقود من الصراع الشرس، فالأمور دوما بخواتمها، ولا يمكن لتلك اللحظة الرفيعة، لحظة التصويت على القرار، إلا أن تكون لحظة تتويج لمسار طويل من الجهاد العسكري والدبلوماسي والتنموي، وسيشهد التاريخ بأن الفضل الأول في ما حققه المغرب من انتصارات في قضيته الأولى، والتي كلّلت باعتراف المنتظم الدولي بسيادته على صحرائه، يعود للقيادة الحكيمة والمتبصرة لجلالة الملك، محمد السادس، الذي، ومنذ اعتلائه العرش، عمل، وبلا كلل، من أجل إنهاء هذا الملف الثقيل، فناوب بين العمل على تنمية الأقاليم الجنوبية، وتمكينها من كل المرافق الحيوية وتهيئة بنيتها التحتية لتصير جاذبة للاستثمارات، وبين الصرامة الدبلوماسية في جعل الموقف من الصحراء المغربية هو المنظار الذي ينظر به المغرب إلى علاقاته مع الدول الأخرى، هذه الصرامة والثبات والشجاعة، ممزوجة بميل واضح للتسامح والمصالحة، من خلال إلحاح جلالته، في العديد من خطبه، على استراتيجية مد اليد ورابح رابح، وأن تخرج كل الأطراف منتصرة في النهاية من هذه القضية التي طالت أكثر مما يلزم. كل هذا خلق سياقا دوليا متضامنا مع المغرب، ومتفهما لحرص المغرب على صيانة وحدته الترابية، فتوالت الاعترافات بمغربية الصحراء، وفتحت العديد من الدول قنصليات في الأقاليم الجنوبية، وخلق زخم دبلوماسي دولي، كان من المتوقع أن يقود، وتحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية، إلى العمل على إنهاء الملف.
أعلن جلالة الملك في خطاب تاريخي من مدينة العيون، حاضرة الصحراء المغربية الكبرى، سنة 2007، اقتراح اعتماد الحكم الذاتي للساكنة الصحراوية، كأقصى تنازل يقدمه المغرب، لحلحلة القضية، ورأفة بالمحتجزين في مخيمات الذل والعار بتندوف، الذين يكابدون يوميا صروف معيشة قاسية. ومنذ ذلك الوقت كان المقترح المغربي هو العرض الإيجابي الوحيد في قضية أريد لها أن تطول إلى ما لا نهاية، فأمام استحالة تنظيم الاستفتاء، وعجز الطرف الآخر، الذي استمر في لوك إنشاءات ركيكة حول تقرير المصير، عن تقديم مقترح بديل مقنع وجدي، تبين للمنتظم الدولي، رغم حسابات المواقع والمصالح، أن العرض المغربي جدي وواقعي، ويشكل قاعدة صلبة من شأنها أن تريح المنطقة من نزاع ما كان له أن يكون، أو يطول، نزاع فوت على شعوب المنطقة فرص الاتحاد والتكامل والتنمية، ولم يضيع فقط على شعوب المنطقة فرصا اقتصادية، بل أضاع عليها خمسة عقود سار فيها العالم بخطى حثيثة نحو حداثة تقنية عاصفة.
قاد جلالة الملك دبلوماسية فعالة، عمل فيها كل فرد، من جهازنا الدبلوماسي، وفي كل بقعة من بقاع العالم وفي كل محفل من المحافل الدولية، على تنزيل رؤية جلالته للقضية، لهذا، وفي هذه اللحظة التاريخية، علينا أن نتوجه بالامتنان لهم ولقواتنا الباسلة، ولأجهزة الأمن بمختلف مستوياتها ولكل من رافع على مغربية الصحراء من مؤرخين وإعلاميين ومواطنين عاديين. فالمغرب، كله، هو من انتصر في النهاية.





