
محمود خليل
تفاعلت عقول المفسرين والمؤولين الأوائل مع آيات الكتاب الكريم، فبدأت نصوص جديدة في الميلاد والوجود غطت في بعض الأحوال على النص الأصلي، وأصبحت المصدر الأهم الذي يعتمد عليه المسلمون في فهم دينهم.
ومع عدم إنكارنا لقيمة هذه النصوص إلا أنها في الأول والآخر نصوص مولدة عن النص الأصلي، وهي تحمل رؤى بشرية اجتهادية لا تتمتع بما يتمتع به النص الأصلي من قداسة، وبالتالي فهي نصوص يؤخذ منها ويرد، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار الطريقة التي تعامل بها المسلمون الأوائل مع النص القرآني.
ولا يزال الاهتمام الأكبر من جانب الكثير من بسطاء المسلمين حتى يوم الناس هذا موجها إلى حفظ القرآن الكريم، لكن ما هو كم الجهد الذي يصرفه الفرد والمجتمع إلى الفهم المتعمق للنص القرآني، قياسا إلى الجهد الذي يبذل في حفظه؟
تعالَ نتأمل أول آية نستقبل بها المولى -عز وجل- في كل صلاة، آية «الحمد لله رب العالمين». وهى آية صريحة في الدلالة على أن الله تعالى رب كل العوالم التي يحتشد بها الكون، وليس رب المسلمين وحدهم، لنا أن نسأل: إلى أي حد يحتكم المسلمون إلى مفهوم «ربوبية الله للجميع»، بما يحمله مفهوم الربوبية من معاني الرحمة والعطاء والعدل في التعامل مع الآخرين.
فى كل الأحوال يشعر أي متأمل للقرآن بحجم المفارقة بين ما يدعو إليه النص الكريم من أخلاقيات، والواقع الذي يختلف في منسوب اقترابه منها أو ابتعاده عنها.
دعنا نستشهد من جديد بفاتحة الكتاب التي نردد فيها قوله تعالى: «اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين». لو أنك سألت بعضا من المسلمين العاديين في معنى المغضوب عليهم أو الضالين، فسيقولون إن المقصود بهم من غضب الله عليهم من عباده، بسبب عدم طاعتهم له، أو ضلوا عن هدى الله، ذلك إذا لم يكونوا من قراء التفاسير ويعتمدون على الاستدلال العقلي والفطري على معاني الكتاب الكريم.
ولو أنك سألت بعض قراء التفاسير حول معنى «المغضوب عليهم» أو «الضالين»، فربما حصلت على شرح مختلف للدلالات، فقد تسمع من بينهم من يقول إن «المغضوب عليهم» هم «اليهود»، أما «الضالين» فهم «النصارى». والسر في ذلك هو ما تذهب إليه بعض التفاسير في تأويل معنى الآية، مثل تفسير «ابن كثير» الذي يشير إلى حديث سأل فيه بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم عن المقصود بـ«المغضوب عليهم»؟ فقال لهم: «اليهود»، وسألوه من المقصود بـ«الضالين»؟ فقال: «النصارى». وهو تأويل يناقض المفهوم الأساسي، الذي تأسست عليه فاتحة الكتاب «لله رب العالمين». فـ«المغضوب عليهم» تشمل كل من يخرج عن طاعة الله مسلما كان أم مسيحيا أم يهوديا، وكذلك من يضل. فالضلال ليس مكتوبا على جنس بعينه أو فئة بعينها.
ليس معنى ذلك بالطبع المصادرة على ما اشتملت عليه كتب التفسير، فالاستفادة منها واجبة، مع أخذ أمرين في الاعتبار، أولهما أنها منتج بشري يؤخذ منه ويرد، وثانيهما أن كل مسلم مطالب بأن يتعامل مع النص القرآني ويستوعب الرسالة بنفسه وبشكل مباشر دون وساطة.