شوف تشوف

الرأي

بريغوجين: باخموت وجوكوف

 

 

بيار عقيقي

 

شتنبر 2022، كانت الهزائم الروسية في أوكرانيا تتلاحق. استعادت كييف مقاطعة خاركيف في الشمال الشرقي، وأطبقت على مقاطعة خيرسون في الجنوب. لم يكن أقرب حلفاء أوكرانيا يعتقد بإمكانيتها في إمساك المبادرة تجاه الغزو الروسي، بعد نحو ستة أشهر ونيف على حدوثه في 24 فبراير 2022، لكن كييف فاجأت العالم. وفي نونبر سقطت مدينة خيرسون في أيدي الأوكرانيين. شبه جزيرة القرم التي استولت عليها روسيا في ربيع 2014 باتت في مهب الريح. وحدهما الثلج ويفغيني بريغوجين من أوقفا الزحف الأوكراني.

استعان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بـ «صديقه» القديم أيام سان بطرسبرغ، ودعاه مع مجموعة «فاغنر» إلى الانخراط بفعالية في القتال، ريثما تكتمل جهوزية من خضعوا لأمر «التعبئة الجزئية» الصادر عن بوتين نفسه. تحركت «فاغنر» في الشرق الأوكراني، فاحتلت بلدة سوليدار، في يناير الماضي، ثم باخموت في ماي الماضي. ذاب الثلج وتحول بريغوجين إلى بطل شعبي. وكـ «رجل أعمال موهوب»، وفق تعبير بوتين في برقية التعزية التي وجهها إلى عائلته الخميس، انتقل بريغوجين إلى خطة جنونية: سيطر على روستوف الجنوبية، وشق طريقه نحو العاصمة موسكو في 24 يونيو الماضي. وصل إلى منشأة فورونيج النووية، وبات على بعد 200 كيلومتر من العاصمة. تحرك الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، وضمن سلاماً بين بوتين وبريغوجين دام شهرين، قبل مقتل الأخير.

 

لم يكن بريغوجين فصيحاً بالمعنى الخطابي، لكن شعبويته كانت منبثقة من قربه من رجاله. يعمدهم بالدم ويستجير بهم ويُعدم كل من تبدر منه إشارة تلكؤ. في النهاية، لطالما كان بريغوجين وجهاً آخر لبوتين. لم يتردد في شتم المؤسسة العسكرية الروسية، بسبب النقص في الذخائر، ولم يتأخر في كيل المديح للجيش الأوكراني. تناقُضه سمح باستيلاد شعبيةٍ روسيةٍ حوله، تجلت في تقبل الناس له ولمجموعته خلال تمرده الفاشل.

شيء واحد لم ينتبه له بريغوجين، فقد سها عن باله أن جنرالاً من الأعظم في جيله، غيورغي جوكوف، صنع أسطورة ستالينغراد (فولغوغراد حالياً)، خلال الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، وكسر هيبة الدبابات الألمانية النازية في كورسك في الحرب نفسها، لكنه انتهى بعد الحرب منبوذاً ومجرداً من أوسمته، فقط لأن الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين خشي نفوذه.

عدم اكتراث بريغوجين بتاريخ ستالين وجوكوف وضعه في موقفٍ من الجهل لما يُمكن أن يفعله بوتين. وإذا كانت فرضية موت بريغوجين حادثة تقنية، لا تصفية قام بها الكرملين، صحيحة، فإنها تعني أمراً واحداً لا غير: نجاتُه من أي انتقامٍ لاحقٍ لبوتين.

يعلم بوتين تماماً أن بريغوجين نموذج لرجل عصابات يخضع لبعض الوقت، لكن ليس كل الوقت. وما فشل في تحقيقه في 24 يونيو الماضي سيعاود فعله في أي محطة مستقبلية.

ولعل بوتين يريد إفساح المجال لورقة مساومة تُعيده إلى أي مفاوضاتٍ مع أوكرانيا، عبر الإيحاء بأنه قضى على «من ارتكب جرائم حربٍ على الأراضي الأوكرانية». بريغوجين ليس حياً، ولا دائرته الضيقة، للرد.

الفارق بين جوكوف وبريغوجين أن الأول كان عسكرياً أما الثاني فكان مليشياوياً. على أيام الأول، لم يكن هناك إعلام كما اليوم، بينما استخدم الثاني الإعلام. لم يقترب الأول من موسكو، والثاني دق أسوارها. الأول مات بعد ستالين، والثاني قبل بوتين. إنها روليت الكرملين: جوكوف ضحية وبريغوجين أيضاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى