الرأي

جنون التسلح الذري

بقلم: خالص جلبي

في عام 1949 م كان وزير الخارجية السوفياتي (مولوتوف) يجتمع بنظيره الأمريكي (بايرنز)، في برلين، يتناقشان، وكان الأخير يتكلم بلهجة لا تخلو من الغطرسة واستعراض العضلات! كانت أمريكا منفردة (MONOPOL) بامتلاك السلاح النووي! خاطبه مولوتوف بشيء من الامتعاض: «هل أتيت إلى هنا وفي جيبك قنبلة نووية تهددنا بها؟»، أجاب الأمريكي محتدا: «أنا من تكساس ولعلك لا تعرف الجنوب الأمريكي، وعندنا من القدرة ما نحطم به أي رأس». تكهرب الجو وانعقدت لغة الكلام، وسكتت الديبلوماسية، وانفضت الجلسة. وتضيف مجلة «الشبيغل» الألمانية التي نقلت الحدث من أرشيفها التاريخي، أنه مساء وفي جلسة لترطيب الأجواء وتطييب القلوب، دعي الرجلان إلى عشاء كريم وموسيقى منعشة، وفي هذه الأجواء السريالية اقترب مولوتوف من (بايرنز)، متهلل الأسارير، وبوجه بشوش تحت تأثير جرعة الفودكا، ثم همس في أذنه بكلمات قليلة امتقع لها وجه الوزير الأمريكي: «أريد أن أطمئن حكومتكم إلى أننا امتلكنا السلاح النووي»، لم يخيب (مولوتوف) الظن ففي 29 غشت من العام نفسه، ارتجت الأرض في صحراء «سيمي بالاتنسكSEMI PALATINSK» بكازاخستان، وصعد الفطر النووي، وضبطت طائرة تجسس أمريكية مقدار الإشعاع النووي المتصاعد إلى أجواز السماء. كانت القنبلة الروسية مثل قنبلة البلوتونيوم 239 الأمريكية، التي أخذت اسم (الرجل السمين FAT MAN)، بسبب شكلها المنتفخ التي جربت في «آلامو جوردو» تحمل اسم (الثالوث المقدس TRINITY)، في حين كانت قنبلة هيروشيما من اليورانيوم المكثف 235، تم تصنيعها في «أواك ريدج»، ألقيت بدون سابق اختبار بوزن 60 كيلوغراما، وأخذت اسم (الرجل الصغير LITTLE MAN)، بسبب حجمها المتواضع مثل أسطوانة الغاز الكبيرة. وظهرت إلى السطح بعد ذلك مجموعة من المعلومات العسكرية والاستراتيجية المثيرة منها:
1ـ أن ما انفجر من «يورانيوم» قنبلة هيروشيما لم يزد على 5 في المائة، و«بلوتونيوم» ناغازاكي 16 في المائة.
2ـ ومنها إمكانية احتراق كل سطح الأرض بما فيه من أكسجين بعد اشتعال القنبلة، وهو ما لم يحدث، والذي حدث كان تساقط الغبار الذري الذي انتبه إليه الطبيب الياباني (ميشيهيكو هاشيا) في هيروشيما، وكان الأول الذي سماه «مرض الأشعة».
3ـ ومنها أن القنابل التي ألقيت على اليابان كانت (نازية)، وصل إلى تركيبها هتلر في اللحظات الأخيرة. جاء هذا في كتاب «سجناء العالم الذري»، وما تأكد أن الخطوات التي قادها الجنرال النازي (ميلش MILCH) لفريق العلماء الألمان كانت متواضعة، كما أن المفاعل الذري النازي كان محدود الإنتاج، والذي جعل هتلر يزهد في هذا السلاح الاستراتيجي رائحة اليهود التي تفوح من هذه الكيمياء! وكلمات الفيزيائي والفيلسوف الألماني (فيرنر هايزنبرغ WERNER HEISENBERG)، صاحب نظرية الارتياب في ميكانيكا الكم؛ ففي النادي النووي الذي أنشأته وزارة الدفاع الألمانية، الذي ضم رواد الفيزياء النووية أمثال (أوتو هان)، الذي انشطرت الذرة على طاولته، وجه ميلش السؤال إلى هايزنبرغ: «ما هو مدى القوة التدميرية للسلاح؟»، أجاب: «ربما مسح مدينة متوسطة الحجم، بما فيها من سكان!»، سأل ميلش مرتاعا: «كم هو حجم هذه القنبلة السحرية؟»، أجاب هايزنبرغ بابتسامة: «بحجم رأس ثمرة الأناناس؟».
سأل ميلش بحماس: «وكم تحتاجون من الوقت حتى تصبح جاهزة للضرب؟»،
أجاب: «لربما 20 سنة، فضلا عن أنهار من الذهب وجبال من الجهد».
فض ميلش الجلسة وهو محبط، أمام تطويق ألمانيا في ظلمات الحرب وضيق الوقت.
4ـ أن ناغازاكي ضربت بقنبلتين لم تنفجر إحداهما، وقعت الثانية في يد اليابانيين الذين سلموها إلى الاتحاد السوفياتي عبر منشوريا؛ فساعدت في بناء القنبلة الروسية التي لم تزد على نسخة «فوتوكوبي» عن قنبلة البلوتونيوم الأمريكية، أخذت اسم «جو ـ واحد JOE 1» رمزا إلى جوزيف ستالين.
لا شيء أبلغ في تصوير المأزق النووي من لحظات التوتر الأقصى، أيام حصار كوبا. يصف (روبرت كينيدي) تلك اللحظات عندما تم وضع الترسانة الأمريكية في حالة الإنذار القصوى، ولاحت في الأفق بوادر المجابهة النووية «مرت على الرئيس الأمريكي جون كينيدي لحظات عصيبة من القلق، الذي عصف به وبدأ يتساءل: هل أصبح العالم على حافة الهاوية فعلا؟ هل ارتكبنا خطأ؟ هل كان هذا خطأنا؟ هل أهملنا حلا عُرض علينا؟ هل ذهبنا بعيدا بهذا الطريق؟ كان الرئيس قد حمل يده إلى وجهه وأخفى بها فمه، كان يطبق قبضة يده ويفتحها، وكانت قسمات وجهه مشدودة ونظراته حزينة مكفهرة، وكانت الساعة قد دنت من اتخاذ القرار النهائي، وانفتحت أمامنا الهوة وليس من مهرب. هذه المرة وجب علينا الجزم وإعطاء الكلمة المباشرة، فعلى بعد 1500 كلم من هنا وفي هذه الامتدادات الشاسعة من المحيط الأطلسي يجب اتخاذ القرار في الدقائق التالية، فقد صعد الرئيس جون كينيدي الأحداث، لكنه سيفقد السيطرة عليها من الآن فصاعدا».
كانت ترسانة السلاح النووي قد أتخمت بجيل جديد من القنابل الحرارية النووية من عيار الميجاطن، بقوة تفجيرية تزيد على ألف مرة عن قنبلة هيروشيما، التي لا تزيد على عود ثقاب لإشعالها. ويقدر الخبراء أن الاستيعاب العميق للرئيسين الروسي والأمريكي لمعنى استخدام السلاح النووي وعدم إصغائهما إلى نصائح العسكريين، كانا حاسمين في عدم الانزلاق إلى كارثة نووية. ويذكر الزعيم السوفياتي (خروتشوف) في مذكراته، أنه وعى تأثير السلاح النووي لأول مرة في شتنبر 1953، فأصيب بصدمة نفسية حرمته النوم الليالي ذوات العدد لم تغمض له فيها جفن؛ ليصل في النهاية إلى قناعة راسخة أنه سلاح ليس للاستعمال بحال، وعندما وصل إلى هذه النتيجة استسلم للنوم ملء جفونه. أما جون كينيدي فقد ذهل من فكرة الشتاء النووي فقال: «ونسمي أنفسنا بعد كل هذا بشرا أسوياء؟». وفي إحدى المراسلات بين الرئيسين والأزمة في ذروتها، خاطب خروتشوف كينيدي: «إن مثلي ومثلك كرجلين يشدان طرفي حبل، عقدت في وسطه عقدة الحرب، كلما زدنا في شدها المتعاكس ازدادت إحكاما؛ فلا يتأتى فكها إلا بقطع الحبل. ومعنى هذا لا يحتاج مثلي أن يشرحه لمثلك؛ لأنك تدرك كما أدرك أنا قوة التدمير المخيفة التي يملكها بلدانا».
هذه الحقيقة المزلزلة حتمت على الإنسان لأول مرة في تاريخه، أن يترك جهازه العضلي ليعتمد جهازه العصبي. ولكن الحقيقة المؤكدة أن الأرض والحياة مهددتان بالفناء، ما لم يتم التخلص وإلى الأبد من سلاح إبليس هذا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى