شوف تشوف

الرأي

حلقة جديدة من مسلسل «الكفار والمسلمين»

خرجت بريطانيا العظمى من اتحاد اقتصادي قوي ساهمت في تأسيسه هو «الاتحاد الأوربي»، بعدما اختار أكثر من نصف شعبها هذا القرار في استفتاء شعبي. وفور ظهور النتيجة قدم رئيس الوزراء البريطاني استقالته لأنه كان يقود الجناح الذي دافع عن البقاء، معلنا أن البلاد في حاجة لقائد جديد يقودها في المرحلة الجديدة. هكذا وببساطة وسلاسة دون ضجيج من «كتائبه». انسحب دون أن نسمع منه تخوينا للمنتصرين أو أي نوع من المظلومية، أو حتى أن يَمُن على الشعب البريطاني قيادته له في مرحلة الأزمة الاقتصادية. فهذا الشاب، الذي تربى في ثقافة ديمقراطية حقيقية، خرج بعد ساعة واحدة من الظهور الرسمي للنتائج ليعترف بهزيمته، ويعترف بكونه لم يعد يصلح لقيادة البلد. فلم نسمع منه ما يفيد أن بقاءه في المقر الشهير لرئاسة الوزراء، «10 شارع دونينغ ستريت»، غنيمة سياسية قد تدفعه لتغيير الدستور كما يحدث في كل الجمهوريات الملكية في التابوت العربي، ولم نسمعه يخون معارضيه ويصفهم بالخصوم كما يردد دوما رئيس حكومتنا «الراغب في الجنة»، بل احترم إرادة الناخبين مفضلا التواري، وهو الذي أكمل للتو خمسين سنة من عمره. فعلى الرغم من أن بريطانيا باتت مهددة الآن بالتفكك نتيجة لهذا القرار الشعبي، لكون إيرلندا الشمالية واسكتلاندا دافعتا بشدة عن البقاء في الاتحاد الأوربي، ما أدى إلى عودة الحديث مرة أخرى عن الانفصال في صفوف شعبي هاتين الدولتين المنضويتين تحت سيادة الملكة إلزابيت الثانية، فإن كل هذه التفاصيل والتداعيات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لم تكن لتقف في وجه مبدأ يعتبر جوهر كل المبادئ، وهو أن الإرادة الحقيقية هي إرادة الشعب.
فهذا الشاب الذي يصغر بنكيران بثماني سنوات، ولد بعد سنة واحدة على وفاة الأسطورة السياسية ونستون تشرتشل، ولم يكن أبدا ليعارض إرادة شعبه، بالرغم من كونه مقتنعا تماما بالكوارث الاقتصادية والسياسية التي ستترتب عن الانفصال، وهو الذي تربى داخل حزب المحافظين على أسطورة تشرتشل، الذي انسحب من الحياة العامة بعد سنة واحدة فقط من انتهاء الحرب العالمية الثانية، فقط لأنه خسر الانتخابات.. حيث لم نسمع منه هو أيضا ما يفيد العتاب أو المِنة لأنه هو من قاد البريطانيين في هذه الحرب التي هددت وجودهم، بل أذعن لتوجهات شعبه وانسحب لمنزله الريفي يكتب يومياته ورواياته حتى مات بعد عشرين سنة من انتهاء هذه الحرب.
إذن، لنقارن هذه الفضائل التي ظهرت جليا عند «الكفار الصليبيين» هناك، بالرذائل التي تتجلى منذ خمس سنوات عند «الإسلاميين الرساليين» هنا. ففي مقابل الاحترام هناك للرأي الآخر، والإذعان لإرادة الشعب، نجد هنا خطابات «الصهينة» والتخوين والهمز واللمز في حق المعارضين.. إنه التاريخ بثقله يحدد أن تكون السياسة عندهم فلسفة للحياة، وأن تكون عندنا مجرد طريق للحصول على الغنائم. فالأمة التي أنجبت كبار العظماء في الفلسفة السياسية الحديثة، لم تكن لتخون أفكارهم من أجل مصلحة فئة تستفيد من الاتحاد الأوروبي في حين أن الأغلبية متضررة.
إنها الحياة السياسية الحقيقية، حيث الأفكار دوما نسبية، لا قيمة لقائلها، مهما علا شأنه، اللهم إلا ما يسندها بها من حجج لإقناع الشعب. هكذا بدأت فكرة الانفصال قبل سنوات في الأرياف والمدن الصغرى التي لم يستفد سكانها من «اقتصاد العولمة» التي يقودها الاتحاد الأوربي، أي في أوساط المزارعين والصيادين والحرفيين الصغار، تماما كما فكرة البورجوازية نفسها قبل ثلاثة قرون من الآن، وقد بدأت فكرة الخروج انتحارية آنذاك، لكن أصحابها يعرفون جيدا أنهم في دولة ديمقراطية، وأن الغلبة تكون لمن يُقنع أكثر، لتبدأ حملات إعلامية وسياسية على مختلف الأصعدة، ومنها محاولة إقناع الأحزاب السياسية الرئيسية بها. وبعد مناقشات امتدت لسنوات، قَبِل البرلمان أخيرا فكرة إجراء استفتاء للتصويت، والذي انتهى بفوز هؤلاء البسطاء، قاطني الأرياف، على الأغنياء قاطني الأحياء الراقية المستفيدين من البقاء داخل الاتحاد. إنه الأمل الذي تتيحه الديمقراطية دوما للبسطاء، إنه الأمل الذي تتيحه الديمقراطية الحقة في وجه كل حاملي الأفكار مهما بدت غريبة أو حتى انتحارية. وهاهي الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس تبدأ يوما جديدا تشق فيه طريقها وحيدة بدون حلفاء أو أصدقاء، سلاحها الوحيد هو شعبها، فبهذا الشعب الذي استجابت لإرادته ستصنع مستقبلا لا يقل عظمة عن الماضي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى