
يعتبر شارل دو فوكو (1858-1916) Charles de Foucauld أحد أخطر الرحالة الفرنسيين والذي لم يكتف بمهمته العلمية الاستكشافية، بل حرص على أن تكون رحلة جاسوس محترف متنكر في زي يهودي. كان يقضي معظم وقته في جمع المعلومات حول المناطق التي يزورها عن عدتها من السلاح وعدد المقاتلين النظاميين وغير النظاميين. كان شارل دو فوكو ماهرا في رسم الخرائط ودراسة التضاريس وطبيعتها، إلى حد أن الجزء الثاني من كتابه “التعرف على المغرب” عبارة عن خرائط ورسومات بيانية ومعطيات جغرافية موضحة للجزء الأول من الكتاب. كان شارل دو فوكو ضابطا عسكريا مخلصا في الجيش الفرنسي في الجزائر، احتك بالمستعربين الفرنسيين وأتقن الدارجة المغربية وراودته فكرة القيام برحلة استكشافية إلى المغرب بطريقة مغايرة لسابقيه حيث تجنب فيها المدن والحواضر المعروفة واهتم بالمناطق المجهولة بالنسبة للأوروبيين في رحلة قصيرة وخاطفة تمتد لأحد عشر شهرا من يونيو 1883 إلى ماي 1884 متنكرا في زي يهودي صحبة دليل يهودي مغربي من “أقا” يدعى مردوخ أبي سرور. يقول عن ذلك: “ألقيت نظرة على الزي اليهودي. بدا لي أن هذا الأخير سيمكنني من المرور دون لفت انتباه أحد، وسيمنحني حرية أكبر. لم يخب ظني”.
استكشاف وتجسس
لقد نجح شارل دو فوكو في رحلته “التعرف على المغرب” التي تعد أخطر ما كتبه الأوروبيون عن المغرب في دقتها ومعلوماتها الجغرافية المهمة، ويمكن اعتبارها رحلة مزجت بين الاستكشاف والتجسس وممهدة للاحتلال الفرنسي للمغرب، بسبب وفرة معلوماتها على المستوى الجغرافي والاجتماعي والتركيبة القبلية والسكانية، بدليل اعتماد الدوائر الاستعمارية الفرنسية فيما بعد جغرافيا وإداريا وعسكريا على كتاب شارل دو فوكو “التعرف على المغرب” واعتباره دليلا ومرجعا أساسيا، والاستفادة منه في خططها لغزو المغرب واحتلاله.
لم يكن شارل دو فوكو مهتما بالمدن المعروفة التي سبق أن كتب عنها غيره. وإنما كانت غايته الأساسية زيارة الأماكن المجهولة والتعرف على سكان البوادي في السهول والجبال المنعزلة، من خلال نشاطهم الاقتصادي وعلاقتهم على الخصوص بالسلطة المركزية. كان دقيقا في عمله كأي جاسوس محترف، يدون يوميات رحلته في دفاتر صغيرة وأقلام رصاص يخفي بعناية آلاته العلمية ورسوماته وخرائطه عن أعين الجميع حتى اليهود المغاربة، الذي من المفترض أنه يهودي مثلهم، بل كان يضمر لهم الكثير من الكراهية والعداء وخاصة دليله موردخاي أبي سرور.
تفاصيل دقيقة عن مناطق “مجهولة”
في رحلته إلى تيسنت وطاطا وأقا يقول:”… غادرتُ “تنتزرت” قليلا من الزمن بعد رجوعي من “أقا”: تجوالي بالجوار وتلميحات اليهود المغرضة كانت أثارت الشبهة حول شخصي وجعلت إقامتي معرضة للأخطار. جاء الدوبلالي حيان، الذي منحني حمايته، على عجل خوفا من الاعتداء على زبونه، لإخباري بالشائعات الرائجة والأخطار التي كانت تهددني. اقترح علي أن يُسكنني في بيته في “تكَ الريح” فقبلتُ اقتراحه هذا. “تكَ الريح” قصر أصغر من “تنتزرت”، ينتصبُ وسط العرق فوق أكمة منعزلة تنتشر مساكنه فوق سفوحها وتتوج قمتها: جعل هذا الموضع الرحل يطلقون على القصر اسم تكَ الريح، “بنت الريح” وكان يسمى “اسببطن” فيما مضى. بساتين “تكَ الريح” فقيرة: لا يوجد في “طاطا” موقع فيه النخيل أقل عددا مما هي عليه في هذا القصر”.
كتب أيضا عن أكادير والصويرة (موغادور) التي قصدها لمقابلة القنصل الفرنسي طلبا للمساعدة المادية والقيام بمراسلاته إلى فرنسا والعودة في نفس المسار إلى نقطة الانطلاق التي كانت من الجزائر، يقول: “23 يناير الذهاب في الساعة 9 يسترسل نفس السهل، حيث كنت منذ ما قبل الأمس، من هنا إلى “أكادير إغير” تكسوه المزروعات والمراعي، وتنتشر هنا وهناك السدرة. وقد انمحت أشجار الأركان. أصبح البلد خاليا، دخلنا في دغل من أشجار وأحراش، أشجار أركان صغيرة وعنب بري. وجدت على جانب البحر بعد اختراق بعض التلال الرملية علوها ما بين 8 إلى 10 أمتار. سرت محاذيا للبحر حتى أكادير. يمر الطريق عند عالية المدينة في المنتصف بينها وبين فونتي Founti: هذا الأخير كَفْرٌ بائس يتكون من بضعة أكواخ للصيادين، وأكادير رغم سورها الخارجي المجير الذي يضفي عليها مظهر المدينة، بلدة فقيرة هجرها السكان وبدون تجارة حسب ما قيل لي… سأبقى في أراضي حاحا بعد دخولها هذا الصباح عند أكادير وسأبقى في هذه الأراضي حتى وصولي إلى موغادور (الصويرة)”.
إن رحلة دو فوكو رغم مهمتها الاستعمارية كثيرا ما كانت تصدر عنها إشارات منصفة مثل قوله: “يتمتع المغاربة بنفس الكبرياء التي توجد عند جميع الناس، وهذا الشعور… متطور جدا ويتحول… إلى شهامة نبيلة… لا حاجة إلى القول إن هؤلاء الناس، الذين يقضون حياتهم حاملين السلاح، طيبون. هؤلاء الناس متشبثون باستقلالهم: لقد حصلوا على هذا الاستقلال عنوة ويدافعون عنه كل يوم من أيام العمر… مجازفين بحياتهم”. أو”إن الإخلاص لأصدقائهم أجمل فضيلة يتحلون بها ويمارسون هذا الإخلاص إلى أقصى الحدود: يجعل هذا الشعور النبيل الإنسان يقوم بأجمل الأعمال”.