
بقلم: خالص جلبي
مما وصلني أن مبلغا يقترب من 300 مليون دولار كان يصب في غزة شهريا من الأونروا وأوروبا وقطر وسواها، وأنا لي أصدقاء ومتابعون هناك، منهم سيدة مثقفة على علم بالوضع تماما راسلتها عن صحة الخبر، فكان جوابها التالي: «نعم يا دكتور غزة مدينة متطورة جدا، عندما قدمت إليها في 1994 شاهدت في كل بيت حماما شمسيا، ورأيت الأتمور وهو جهاز موجود في الحمام، بمجرد أن تفتح حنفية الماء تنزل المياه ساخنة من أجل الاستحمام. ورأيت الحمامات الشمسية التي تزرع فيها الخضروات في كل فصول السنة.. فالملوخية والبامية وسائر المزروعات موجودة على مدار العام .. تخيل يا سيدي البطيخ تمت زراعته في التربة الرملية. الدش (طبق التلفاز) دخل غزة قبل أي دولة عربية. غزة متقدمة ومتطورة عن أي قطر عربي، بسبب تطور إسرائيل الحضاري. الإنترنت في غزة G5، ولا يوجد بيت ليس فيه إنترنت .. أيام كورونا كان التدريس إلكترونيا .. أي أن كل طالب في قطاع غزة يتابع مع معلمته المنهج في بيته، ولكن للأسف غزة رجعت مائة عام إلى الخلف، بعد حرب 7 أكتوبر. لقد دمر الاحتلال المدارس والجامعات والمستشفيات والمؤسسات والبيوت، ولم يترك حجرا على حجر. في غزة بيوت لا يمكن أن تراها في نيويورك أو واشنطن.. في إحصائية تم إجراؤها على أسعار الشقق السكنية، وجدوا أن سعر البيت في غزة على شارع صلاح الدين الرئيسي يعادل سعر شقة في مركز مدينة واشنطن.. أسعار الشقق لدينا خيالية. في الآونة الأخيرة تم بناء شاليهات على البحر لقيادات وتجار حماس تفوق الخيال.. ولكن عامة الناس في غزة لا يستطيعون الدخول إليها، لارتفاع تكاليف ورسوم الدخول إليها، بل كانت مقتصرة على الطبقة المخملية من الناس.. هذا بالإضافة إلى معظم مطاعم وكافيهات غزة، والتي هي محرمة على معظم سكان القطاع، فقد بلغت نسبة البطالة 60 في المائة في عهد حكومة حماس.. وغالبية الشباب بدون زواج. بنيت في غزة ثلاثة مساجد (الخالدي، الميناء، والقلعة)، تكلفة كل مسجد 3 ملايين دولار. في غزة تسير في الشوارع أحدث السيارات العالمية، لا سيارة قديمة تعمل على الخط مطلقا، بل التي تعمل على الخط سيارات الرمش وسيارات موديل 2020 تخيل يا رعاك الله.. تنتشر في غزة الجامعات العملاقة والمراكز الثقافية والمؤسسات العلمية.. حتى أن إحدى صديقاتي ذهبت إلى السودان للحصول على الدكتوراه، قالت لي بالحرف الواحد: كي تلحق السودان بغزة في التقدم العلمي والتكنولوجي تحتاج إلى مائة عام. الأكاديميون الغزازوة يخوضون المسابقات العلمية العالمية ويفوزون بها بجدارة.. أعرف دكتورا فاز بمسابقات علمية في أبحاث علمية وهو في غزة، في كل من تركيا وماليزيا وقطر والمغرب.. أما أنا فقد فزت ببحث علمي في المرتبة الثالثة على مستوى الوطن، وكنت على وشك أن أتقدم ببحث مشابه له بالاتفاق مع دكتور تم ترشيحه لي من قبل رئيس جامعة غزة يعمل في أمريكا، لنفوز بالجوائز العالمية، لما رأى اجتهادي وإبداعي في البحث العلمي. يا دكتور اليوم أصبح ذلك ماضيا نريد أن يعود بقوة وأحلاما نود استعادتها، الدكتور الذي فاز بجوائز علمية عالمية يدعى محمود عساف، موجود الآن في خيمة برفح يصارع البقاء على الحياة، يقضي نهاره في جمع الحطب لإعداد طعام لأولاده، أو جلب المياه، يبكي وينتحب من أجل أن يعود إلى مكتبته وكتبه وأبحاثه .. كما يحدث لي تماما. اليوم وأنا أخبز الخبز على فرن الحطب، تذكرت كيف أن الوقت الذي أقضيه اليوم في عجن الطحين وتقطيع ورقه وخبزه والذي يستغرق ما يعادل أربع ساعات كنت أقضيه في الكتابة والبحث، والوقت الذي أقضيه في غسيل الملابس بيديَّ والطبخ على النار كنت أقضيه أيضا في القراءة والمطالعة والبحث. أنا حتى اللحظة ولله المن والفضل لم أغادر منزلي، لأنني أسكن ضمن ما اعتبرته إسرائيل كذبا وزورا منطقة إنسانية آمنة، ولن أخرج بإذن الله منه.. إلا أن كل حياتي أنا وأولادي تغيرت.. لقد خسرت ما يقارب عشرين كيلوغراما من وزني، يحترق قلبي وأنا أرى ابني والذي كان سيتخرج هذا العام مهندسا يقضي نصف النهار في شحن البطارية للإضاءة، والجولات في عيادة الوكالة، وباقي النهار يساعدني في أعمال البيت من تعبئة المياه وجلبها لي من خزان أسفل البيت إلى الطابق الثاني أو الثالث، للغسيل وتنظيف الحمامات. ويحترق قلبي وأنا أرى زوجي الخمسيني يقضي معظم كل وقته في تلبية مطالبنا الأساسية والضرورية، من طحين وبعض الخضر كالبندورة والخيار والباذنجان، والتي لا يوجد غيرها في السوق، وربما ننعم بطبخة واحدة خلال الأسبوع. وكيف يقوم بإشعال النار لي لكي أقوم بإعداد الطعام لأولادي، فأنا لا أتقن إشعالها ولا أعرف كيف أحافظ عليها مشتعلة. ومع ذلك نِعَمُ ربي علي كثيرة، وأرى نفسي أعيش ملكة مقارنة بأبناء شعبي، الذين هدهم النزوح والعراء وقتلهم الجوع والبرد. يا دكتور حياتنا انقلبت رأسا على عقب، ولكنني موقنة أن القادم سيكون أفضل مليون مرة بإذن الله، فالدم الغزير المسفوك للأطفال والنساء في غزة لم ولن يضيع هدرا.. فلقد استكبر واستبد وطغى الاحتلال بشكل رهيب، والله لا يحب الظالمين والمستبدين والمستكبرين.. فالله يمهلهم ولا يهملهم.
وكان جوابي للأخت الغزاوية التالي: إذا كان الأمر كما ذكرت، فما معنى مغامرة 7 أكتوبر؟ كل تخوفي من ولادة دولة عربية خرافية جديدة يحكمها طغاة فاسدون. وحين شكى بنو إسرائيل إلى موسى أن الوضع لم يتغير مع قدومه، كان جوابه: عسى ربكم أن يهلك عدوكم وبستخلفكم في الأرض فلينظر كيف تعملون؟ وهو ما دفع الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» إلى وضع شروط ثلاثة في التغيير، أولها وجود البديل الأفضل، وإلا نصبنا محل فرعون فرعونا جديدا. فهل وضع غزة وقيادتها كذلك؟ أنا أعلم علم اليقين أن الكثير سوف يرفض ما أكتب، ويقولون أحق هو؟ لقد كتبت كتابا كاملا عن النقد الذاتي وضرورة النقد الذاتي للحركات الإسلامية، وأكثر من استفاد منه كانوا المغاربة.
نافذة:
الدكتور الذي فاز بجوائز علمية عالمية يدعى محمود عساف موجود الآن في خيمة برفح يصارع البقاء على الحياة يقضي نهاره في جمع الحطب لإعداد طعام لأولاده أو جلب المياه





