شوف تشوف

الرأي

غرائب انتخابية من دفتر الماضي

تتوالد قصص الانتخابات ولا تنقضي، في مثل العجين الذي قيل عنه، إن زيادة منسوب الماء يحتم مثله من الدقيق، كي يصبح خبزا أو «عيشا» على حد اقترانه بمتطلبات الحياة. ومن خميرة الانتخابات غرائبها المتناسلة على الألسن، رغم مرور التجارب.
كأنها تتأثر بلعبة الاقتناص، ما إن يضع الصيادون شباك الإيقاع بالخارجين عن القانون، حتى يهرع هؤلاء إلى اختراع طرق ووسائل جديدة لصد عيون الرقابة. ولولا أن هناك قرائن بوجود سوق سوداء لما استطاع مستخدمو الأموال أن ينفذوا من ثغرات علاقات وارتباطات وسلوكات ليست فوق الشبهات. ومنذ أن كانت الانتخابات في المغرب وهي محل انتقاد، كما في المباريات التي لا يقبل فيها الخصم الهزيمة. لكن سهامه باتت توجه للمال أكثر، فهو زينة الدنيا ووسخها في الآن ذاته.
غير أن الخميرة التي تساعد في تشكيل حجم وانتفاخ واستدارة الخبز، قبل إعداده للطهي على نار غير ملتهبة، يمكن أن تجعله يفيض فيفسد شكله ومذاقه. وإن كان ميزتها في المشروبات التي توصف بأنها «منعشة» أنها تصمد وتتعتق وتتخمر، ومن مشتقاتها خرج الأمر الناهي بأن ما يسكر كثيره فقليله حرام. ولم يقل الشاعر امرؤ القيس: «اليوم خمر وغدا أمر»، إلا لكون فكرة الانتقام لوالده «اختمرت» في رأسه، كما اختمرت تجاوزات وسلوكات مشينة في الجسد الانتخابي، وما سلمت نظرية من العيوب.
سئل العقيد الراحل معمر القذافي يوما لماذا لا يؤمن بالديمقراطية وخيار الشعب في صناديق الاقتراع، فاستنتج أفكاره العجيبة، ومن بينها أن الانتخابات يمكن أن تفوز بها الأقلية على حساب الغالبية، وقدم مثالا عن ذلك، قال: إذا حاز منتخب على نسبة 20 في المائة من الأصوات، وتوزعت الثمانون الباقية بين عشرة مترشحين، بما يقل عن العشرين في المائة، فذاك معناه أن صاحب العشرين فاز ضد الثمانين. وتجاهل أن صراع الأصوات والأرقام ينطلق في الديمقراطيات الحقيقية من البرامج. وإليكم بعض ما اختمر في الذاكرة من غرائب انتخابية:
استغربت المعارضة، أيام زمان، لعلامات التزوير التي بلغت درجة عالية من الاستهتار. وجاء في نتائج التصويت لفائدة دستور العام 1970، أن مدينة قصر السوق (الرشيدية حاليا) صوتت مائة في المائة بـ«نعم»، ولم يتخلف أحد من ساكنتها عن أداء الواجب. على رغم أن حزبين كبيرين، هما الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والاستقلال، دعيا إلى مقاطعة الاستفتاء أو التصويت بـ«لا».
تساءلت المعارضة آنذاك، أليس في المدينة كاتب إقليمي أو مفتش للحزب يقدران على الجهر بغير الولاء بـ«نعم». كبرت علامات الاستفهام حين تبين من خلال إحصاء الأصوات أنها فاقت أعداد المسجلين، بمن فيهم المرضى الذين عجزوا عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع، أو الأشخاص الذين غيبهم الموت، فأعادت الآلة الانتخابية إخراجهم من قبورهم. وعندما سئل وزير الداخلية الجنرال محمد أوفقير عن انتقادات المعارضة، رد بأن أصحابها يعيشون في المدن ولا يعرفون ماذا يجري في المناطق البعيدة عن العاصمة.
الفرق أن معرفة ما يجري لا تتوقف على العاصمة أو غيرها، بل تهم طرائق التفكير في إعداد الخرائط وبلقنتها. وكان الهاجس الأساسي لدى رجال السلطة في تلك الفترة نزع أنياب الأحزاب الوطنية، بهدف خلط الأوراق وفرض أمر واقع آخر، وما يتعذر بلوغه عبر المنافسات المشروعة، ثمة من يختزل الطريق إليه من خلال تلوين وصباغة المشاهد. وكانت أقرب وصفة إلى ذلك هي إخراج ورقة التسعة والتسعين في المائة التي هيمنت على فترات وسيناريوهات، قبل أن تبدأ في التقلص والتراجع.
لا فرق في أن يفوز أي استفتاء بنسبة تقارب الستين في المائة، أو لا تزيد عن الواحد والخمسين، وبين حشو الصناديق التي لم تكن زجاجية أو تركها رهن إرادة الناخبين، يكمن الفارق الجوهري الذي يقاس بالملمترات، من دون أن يعني الانكسار أو الانتصار نهاية العالم. وطغت بعد كل التجارب المريرة نبرة واقعية على السطح تفيد أن الجميع يتقبل نتائج اتجاهات الرأي العام.
ولأن المنافسات الانتخابية مليئة بالتناقضات، حيث يسود منطق الربح على سواه، فقد راودت أحد داعمي مترشح برلماني في وقت سابق فكرة استمالة أكبر قدر ممكن من السكان. ومادامت الغاية تبرر الوسيلة فقد اهتدى إلى حشد تناقضات المجتمع في حالة واحدة.
كانت المنافسات تدور في منطقة نائية، حتمت زيارة دواوير متناثرة من سفح الجبال إلى قممها، ومن ربوع السهول إلى منعرجاتها، ومن الأسواق الأسبوعية إلى الجولات الميدانية التي تكشف عن مزايا الطبيعة وعبث الإنسان. اقترح داعم المترشح بعد تفكير وتدبير طريقة ذكية لاستمالة الناخبين، من دون تسجيل أي مؤاخذات عينية إزاء فرضية استخدام المال.
قال إن الناس هناك يجتمعون مساء في مسجد القرية، وإن الفقيه الذي يتولى رعايته في وسعه أن يعزمهم على وليمة، تتوج بالدعاء لصالح المترشح المتنافس، فليس أفضل من الدعاء في حالة كهذه. وزاد بأن الفقيه يمكنه أن يتحدث عن خصال المترشح المعني، وعزز فكرته بأن مترشحا سابقا من حزب يساري قام بالعمل نفسه دون حرج.
راقت الفكرة المترشح، خصوصا وأنه لم يكن مضطرا لحضور وقائع الوليمة، تلافيا للإمساك به في حالة تلبس. خصوصا وقد تفرعت عن تلك الوليمة «مغانم» بموائد أخرى في بعض البيوت. في اليوم الموالي قدم داعمه جردا بأعداد الحاضرين الذين قال إنهم سيصوتون لفائدته، ثم انبرى وراء اقتراح آخر.
قال إن هناك شبابا لم يحضروا وليمة المسجد، والأجدى إقامة حفل ساهر لهم، في حضور فرق غناء، لأن للناس في ما يعشقون مذاهب، ثم ناول المترشح قائمة بكلفة السهرة التي ستكون حافلة بالرقص والغناء. استسلم المترشح للاقتراح وأمده بما طلبه. فالناخبون ليسوا كتلة واحدة متجانسة، وما يرضي الشيوخ أو النساء لا يشابه رغبات الشباب.
كأني بداعم حملة المترشح إياه أكثر إلماما بتركيبة الكتلة الناخبة، لولا أن نتيجة الاقتراع ألغت هذه الفرضية، وفاز مترشح آخر. قد يكون داعموه أكثر معرفة بنسيج العلاقات والارتباطات، لكنها حكايات تدور في الخفاء، وتلتقي عند مطلب الاستجابة لرغبات الناخبين، لو أن التعهدات كانت في مستوى الحملات.
كل هذا جرى في وقت كانت ترددت فيه مقولة النزاهة والشفافية والحياد، أيام زمان طبعا!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى