شوف تشوف

الرأي

قراءة في مقولات يمين أوروبا المتطرف

عمرو حمزاوي
أواصل في هذه المساحة البحث في خلفيات وأسباب صعود اليمين المتطرف في عموم القارة الأوروبية، على الرغم من استقرار الدساتير والممارسات الديمقراطية في العدد الأكبر من بلدانها.
خلال الأسابيع الماضية، طالعت نصوص حوارات أجريت مع سياسيين وبرلمانيين يمينيين ينتمون إلى أحزاب حاكمة وأخرى معارضة، وتابعت مداخلات إذاعية وتلفزيونية للمتحدثين باسم اليمين المتطرف، وبحثت في دراسات سوسيولوجية عن طبيعة القواعد الناخبة لليمين، ومطالبهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وعن تعبير برامج الأحزاب اليمينية المتطرفة عن تلك المطالب. كان سؤالي الأول هو، هل وراء الصعود السياسي والانتخابي لكارهي الأجانب ورافضي اللجوء والراغبين في تفتيت الاتحاد الأوروبي طيف آخر من الأسباب غير الخوف من الغرباء، والقلق على المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية من استنزاف اللاجئين؟ أما سؤالي الثاني فوجهته الرغبة في التلمس الموضوعي والمبتعد عن المبالغة، للتداعيات الفعلية لصعود اليمين المتطرف على المؤسسات الديمقراطية بمكوناتها التشريعية والتنفيذية والقضائية.
تشترك أحزاب اليمين المتطرف في إطلاقها للاتهامات بالجمود والفساد والابتعاد عن الناخبين باتجاه أحزاب اليمين واليسار التقليدية. ويعبر اليمينيون المتطرفون هنا، وكما تدلل عديد استطلاعات الرأي العام في المجتمعات الأوروبية، عن انطباعات سائدة بين قطاعات شعبية واسعة لم تعد تتحمل، إن جمود برامج أحزاب يمين ويسار الوسط ورفضها للتغيير، أو فضائح الفساد المتكررة التي ضربت النخب السياسية التقليدية. في ألمانيا، على سبيل المثال، تهدد فضيحة التربح من «تجارة الكمامات الطبية»، التي تورط فيها برلمانيون للحزب المسيحي الديمقراطي مصداقية حزب المستشارة أنجيلا ميركل، وتحد من رضاء المواطنين عنه. وفي هذا السياق، يوظف اليمين المتطرف اتهاماته للأحزاب التقليدية، لكي يجتذب تأييد ناخبين بين الطبقات العاملة والفئات محدودة الدخل والتعليم من البيض الأوروبيين، الذين سئموا رؤية ذات الوجوه في مقاعد الحكم والمعارضة، ويبحثون عن وجوه جديدة تتحدث بلغتهم وتستخدم مفرداتهم عند المطالبة بمحاسبة الفاسدين، أو إيقاف تدفق الأجانب واللاجئين، أو الحد من تدخل الاتحاد الأوروبي في السياسات الاقتصادية والمالية وسياسات العمل للدول الأعضاء. ومن جهة أخرى، يكتسب اليمينيون المتطرفون طابعهم الشعبوي من خلال انتقاداتهم المستمرة، بل وعدائهم الصريح للنخب التقليدية، ويبدون بمظهر السياسيين والبرلمانيين القريبين من هموم ومطالب العمال ومحدودي الدخل من «السكان الأصليين».
كذلك تتشابه أحزاب اليمين المتطرف في تبنيها لخطاب سياسي، يوظف المقولات القومية لصياغة رفض صريح لوجود الأجانب واللاجئين من غير البيض، ورفض آخر لكيان الاتحاد الأوروبي بوضعيته الراهنة. الوطنيون الإيطاليون، القوميون الألمان، الديمقراطيون السويديون، الجبهة الوطنية الفرنسية؛ بمسميات كهذه يتقرب اليمين المتطرف من المشاعر الوطنية للبيض الأوروبيين الخائفين من ضياع «الهوية الأصلية» لمجتمعاتهم، ويستخدم خوفهم لاجتذاب التأييد لبرامج سياسية تدعو إلى إغلاق أبواب أوروبا في وجه الأجانب واللاجئين.
وبمسميات كهذه أيضا يسجل اليمين المتطرف رفضه لانصهار الدول الوطنية والقوميات الأوروبية في اتحاد يدار من بروكسيل، ولا يستطيع الناخبون التأثير في قراراته. يزعم اليمين المتطرف ذلك متجاهلا المكاسب الاقتصادية والاجتماعية الهائلة التي حققها الاتحاد الأوروبي لشعوب القارة، ومتناسيا كون الناخبين في المجتمعات الأوروبية يشتركون في تحديد سياسات وقرارات الاتحاد عبر انتخاب حكوماتهم، التي تمثلهم في الاتحاد، ومن خلال انتخابات البرلمان الأوروبي وهي انتخابات مباشرة يصوت فيها الأوروبيون لاختيار هيئة تشريعية تمثلهم وذات صلاحيات واسعة.
بالدعوة إلى إغلاق أبواب أوروبا في وجه الأجانب واللاجئين، وإغلاق أبواب المجتمعات الأوروبية على قومياتها البيضاء «الأصلية»، يسجل اليمين المتطرف خروجه عن توافق الأحزاب التقليدية في اليمين واليسار، الرافض لعزل القارة الأوروبية عن محيطها الإقليمي والعالمي، والمتبني أيضا لتعميق التكامل والتعاون داخل أوروبا.
تظهر استطلاعات الرأي العام وكذلك دراسات تفضيلات الناخبين وسلوكهم التصويتي، أن القواعد الناخبة لليمين المتطرف في أوروبا لم تعد ترى لا السياسة ولا المؤسسات الديمقراطية كمجال للصراع السلمي بين اليمين واليسار، حول قضايا مثل النظم الضريبية، وسياسات العمل والأجور، وإعانات البطالة والعجز، والرعاية الاجتماعية والصحية والتعليمية. على النقيض من ذلك، يرى ناخبو اليمين المتطرف في السياسة صراعا هوياتيا وثقافيا بين دعاة فتح أبواب أوروبا للأجانب واللاجئين، وبين المطالبين بإغلاق الأبواب، بين دعاة تبني قيم عصرية تحض على الحرية والمساواة وقبول الآخر، وبين الباحثين عن إنقاذ ما يرونه الهوية الأصلية، والمتمسكين بفهم تقليدي للقيم الدينية المسيحية، يرفض على سبيل المثال زواج المثليين. يرى ناخبو اليمين المتطرف في السياسة صراعا هوياتيا وثقافيا بين دعاة الانصهار في اتحاد أوروبي تذوب فيه القوميات واللغات، ويتضامن به الأغنياء مع الفقراء، وبين القوميين المدافعين عن المشاعر الوطنية والمطالبين بالحفاظ على القوميات داخل أوروبا، حتى وإن كان ثمن ذلك هو الخروج من الاتحاد الذي ضمن لبلدان القارة الاستقرار والرخاء، إن في أعقاب الحرب العالمية الثانية أو في أعقاب انهيار الكتلة السوفياتية.
هذه الحقيقة، كون ناخبي اليمين المتطرف يرون السياسة كمجال لصراع هوياتي وثقافي، يؤيدون به من يرفع لافتات إغلاق الأبواب والدفاع عن الهوية الأصلية والحفاظ على القوميات داخل أوروبا، تفسر محدودية اهتمام ناخبي اليمين المتطرف بتفاصيل البرامج السياسية لأحزاب، كالجبهة الوطنية الفرنسية وحزب البديل لألمانيا وحزب ديمقراطيي السويد والأحزاب اليمينية في إيطاليا. فالتورط في الصراع الهوياتي والثقافي لا يستدعي صياغة برامج سياسات محددة في ما يخص النظم الضريبية وسوق العمل والرعاية الاجتماعية، ولا يستلزم التمايز في الأطروحات الانتخابية عن المقولات البسيطة التي يتداولها الناس حول وجود الأجانب واللاجئين، والدور الفعلي للاتحاد الأوروبي. المطلوب فقط هو رفع اللافتات المناسبة والقرع المستمر لطبول جمود وفساد النخب التقليدية، والخوف من الغرباء، وحتمية حماية الهويات الأصلية والقيم التقليدية، وضرورة مواجهة الانصهار في اتحاد أوروبي يلغي القوميات.
هكذا، يحقق اليمين المتطرف مكاسبه السياسية والانتخابية، ويضغط بقوة على المؤسسات الديمقراطية في أوروبا.

بالدعوة إلى إغلاق أبواب أوروبا في وجه الأجانب واللاجئين، وإغلاق أبواب المجتمعات الأوروبية على قومياتها البيضاء «الأصلية»، يسجل اليمين المتطرف خروجه عن توافق الأحزاب التقليدية في اليمين واليسار، الرافض لعزل القارة الأوروبية عن محيطها الإقليمي والعالمي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى