قصة لقائي بالأمير مولاي الحسن بن المهدي الذي دعمنا ماليا لشراء أسلحة للمقاومة

يونس جنوحي
مع الأمير..
كان الأمير مولاي الحسن بن المهدي شخصية غاية في الأهمية في المجتمع التطواني، كما أن مواقفه كانت تنتصر دائما للقضية الوطنية، رغم أن المنطقة كانت تحت سيطرة الإسبان.
وأول موقف له معنا أنه تدخل لدى السلطات الإسبانية عندما أطلق سراحنا وأخرجنا من السجن، ومنذ ذلك الحين بقيتُ أكن له احتراما خاصا.
في إحدى المرات، كانت هناك فكرة للحصول على مساعدة منه، من أجل الإخوان.. خصوصا وأن عدد اللاجئين في تطوان وقتها وصل تقريبا إلى 120 مقاوما وتقرر أن أذهب لكي أطلب لقاءه في قصره بتطوان.
وفي سياق جمع التبرعات والمساعدات المالية من أجل المقاومة، حل في تطوان رجلان شكّلا لجنة وتكلفا بهذه المهمة، وهما الفقيه أحمد المذكوري، ونمت بيني وبينه صداقة متينة، وكانت علاقتي به تعود إلى بداية الخمسينيات، عندما كان في السجن، وزُرته مع بعض الإخوان من حزب الاستقلال. وعندما جاء إلى تطوان، تجدد التواصل بيني وبينه، والحاج العتابي، وهو أيضا من المقاومين البارزين الذين جاؤوا إلى تطوان.
قال لي المذكوري بما أنني شخص معروف في تطوان بفضل مهنة التصوير، يجب أن أستثمر هذه «الشعبية» لصالح المقاومة، واقترح عليّ أن أتوجه إلى الأمير مولاي الحسن بن المهدي لكي يساعد المقاومين.
توجهتُ إلى «السكوري»، الذي كان يشتغل مدير ديوان الأمير، وطلبتُ منه موعدا وأخبرته بأنني مصور، لدي مجموعة من الصور والوثائق أرغب في عرضها على الأمير مولاي الحسن بن المهدي. وأعتقد أنه فهم وقتها ما كان يدور في نفسي ووعدني بأنه سوف يرد على طلبي.
فعلا، بعد يومين أرسل السكوري في طلبي، وقال لي:
-«سوف تأتي إلى باب العقلة، وهناك سوف تأتي سيارة لكي تأخذك للقاء الأمير».
وفعلا ذهبتُ في الوقت المحدد وجاءت سيارة لتقلني إلى القصر.
وفعلا دخلتُ عنده ووجدته رجلا متفهما وأصغى إلى مطالبنا ووصفتُ له حالة بعض الإخوان الذين هربوا من الأحكام ومذكرات البحث في الدار البيضاء، ووجدوا أنفسهم عالقين في تطوان بدون دعم ولا اتصال مع أسرهم.
وكانت معه أيضا زوجته للا فاطمة الزهراء العزيزية، ابنة السلطان مولاي عبد العزيز خلال اللقاء.
رحّبا بي كثيرا. ومن جملة ما قلتُ للأمير في ذلك اللقاء، إن الإخوان كلفوني بالاتصال به، لكي يساعدنا ماديا لأن المقاومة ترغب في شراء السلاح.
ورد عليّ الأمير قائلا:
-«شحال خصهم؟»
وأجبته رحمه الله بأنه لا دخل لي في قضية المال، وهناك لجنة خاصة بالموضوع، وأن مهمتي تتوقف فقط عند إخباره بحاجتنا إلى المساعدة.
فأجابني رحمه الله بهذا اللفظ:
-«يجب عليك أن تنتبه كثيرا. لا بد الآن أن الإسبان يراقبونك».
-«نعم سيدي لدي علم بالموضوع».
شكرت الأمير على سعة صدره وحسن استقباله، بعدما أحسستُ بأن لديه استعدادا وحماسا لتقديم المساعدة.
عندما غادرتُ، تواصلت رأسا مع الفقيه المذكوري، وقلتُ له إننا قريبا سوف نتوصل برد من ديوان الأمير.
وفعلا بعد يومين، اتصل بي السكوري، وقال لي أن أخبر اللجنة -المكونة من الفقيه المذكوري والحاج العتابي- أن السيارة نفسها التي أقلتني إلى قصر الأمير سوف تأتي لأخذهما من المكان ذاته.. وكذلك كان.
ولاحقا أكد لي الفقيه المذكوري أن الأمير مولاي الحسن بن المهدي كان سخيا مع المقاومة، وفعلا قدم إعانة مالية مهمة. وقال لي المذكوري في هذا السياق:
-«إن المساعدة التي قدمها لنا الأمير مولاي الحسن بن المهدي تفوق بكثير ما كنا نتوقعه».
استعلامات المقاومة
اشتغالي في التصوير منح لي غطاء مناسبا جدا للعمل، وأبعد عني شبهات الإسبان. كنت أتجول في ساحة جنان العُشاق على أساس أنني مصور. وعندما ألتقط صورة لأحدهم، أوجهه لكي يأتي للحصول عليها لاحقا في «الأستوديو» الصغير الذي كنت أكتريه. وفي هذا السياق كان يأتي عندي مقاوم سوسي الأصل، لكنه كان يقطن في مدينة طنجة واسمه «واكريم». كانت بيني وبينه صداقة متينة جدا، وأخوة أعتز بها أيما اعتزاز.
كان الأخ «واكريم» يأتي بانتظام من مدينة طنجة، وكانت وقتها منطقة دولية كما يعلم الجميع، ويحمل معه رسائل ووثائق، ويتحدث معي في الساحة وكأنه يبحث عن خدمات التصوير. وألتقط الصور للوثائق والرسائل التي يقدمها لي، وأسلمها لاحقا إلى أحمد زياد.
في إحدى المرات، استوقفني رجل في الشارع العام بمدينة تطوان، وتحدث معي بنبرة آمرة، وقال لي:
-«ألن تلتقط لي صورة أيها المصور؟».
أجبته بأنني مستعد لتصويره، لكني سألته أولا إن كان يملك المال لأداء ثمن الصورة. ورد عليّ بأنه يتوفر على المال «طبعا». بل وسألني متهكما:
-«وهل سوف آتي لألتقط صورة بلا مال؟».
ولأن لهجته كانت شمالية، سألتُه:
-«هل أنت جْبلي؟».
فقال لي:
-«لا. أنا طنجاوي».
كان ذلك هو «قصّارة».
وفعلا التقطتُ له صورة، لكنه عندما أراد أداء قيمة الصورة، منحني مبلغا من المال، قيمته مئة بسيطة. وهو مبلغ مهم في ذلك الوقت، ويتجاوز قيمة الصورة الفوتوغرافية بكثير. ومنحني ظرفا مُغلقا أوصاني أن أوصله إلى أحمد زياد، وفعلا أوصلته، ولا أعلم إلى الآن محتوى ذلك الظرف. وحكى ما دار بيني وبينه للمقاوم الكبير، الأخ «بن عثمان».
كانت تلك طريقة بعض الغيورين في إيصال المساعدات إلى إخواننا اللاجئين في تطوان وإعانتهم.
عندما كنت أشتغل في التصوير الفوتوغرافي، الذي كان في الحقيقة مجرد غطاء على أنشطة المقاومة كما أسلفتُ، كان المهدي بن بنونة، الكاتب العام لحزب الإصلاح الوطني، والمقرب من سي عبد الخالق الطريس، الأمين العام للحزب، يُدير جريدة «الأمة».
وأصدر لي سي بنونة وقتها بطاقة «مصور صحافي» تخول لي حضور الاجتماعات واللقاءات والندوات التي تقام في تطوان. وبفضل هذه البطاقة تمكنت من التقاط صور رسمية كثيرة لشخصيات مغربية وإسبانية.
وفي المرة الوحيدة، التي زار فيها سي علال الفاسي مدينة تطوان، نظمنا له جولة في المدينة والنواحي، والتقطتُ وقتها ما يقارب 500 صورة لتغطية هذه الزيارة ومختلف الاستقبالات والأنشطة التي نظمها الإخوان لصالح سي علال، وأخذ معه كل تلك الصور، في سفره إلى القاهرة، للتعريف بالقضية الوطنية لدى الشخصيات العربية بهدف إيصالها إلى الأمم المتحدة.
غطاء جريدة «الأمة» وفر لي نوعا من الحماية «المؤقتة» ضد مراقبة الإسبان. فقد كان لديهم مدير استعلامات وموظف شهير في تطوان اسمه «فيلدا». وهذا الأخير كان يحشر أنفه كثيرا في أنشطة الإخوان اللاجئين ويزرع جواسيسه في كل مكان.
وهنا وقعت لي حادثة مهمة. ذات يوم التقطتُ بعض الصور لسيدة إسبانية، والدها يشتغل في الاستعلامات في تطوان، وبدا واضحا أنها كانت تتعاطف معنا، ومع استقلال المغرب. وعندما وصلت إليها معلومة بأن الاستعلامات الإسبانية تشتبه في أنشطة الإخوان في «دار بريشة»، اتصلت بي هاتفيا، بحكم أن رقم هاتف محل التصوير كان مطبوعا على ظهر الصور التي أسلمها للزبائن، وقالت لي إن هناك تفتيشا مفاجئا لدار بريشة.
وفعلا كانت دار بريشة مخزنا للسلاح، ويسكنها المقاوم «الحاج العتابي» وأبناؤه.
اتصلتُ به فورا، وقلتُ له إنني توصلت بمعلومات مفادها أن الشرطة الإسبانية سوف تحل بشكل مفاجئ لتفتيش دار بريشة، وأنه يتعين علينا نقل كميات السلاح المتوفرة هناك إلى مكان آخر. وفعلا جاءت شاحنة لنقل الأسلحة، التي كانت حصيلة ما جمعه المقاومون من مختلف الجهات والمناطق، ونُقلت إلى مكان آخر.
عندما جاءت الشرطة الإسبانية لتفتيش المكان، وجدونا في بهو الدار جالسين نلعب الورق، وكأن شيئا لم يقع. فقد حرصنا على أن نمثل أننا مجرد أصدقاء نتسامر ليلا، ونقضي وقتنا في سهرة أخوية عادية.
صعد رجال الشرطة إلى الدور العلوي، وفتشوا الغرف التي كان ينام فيها أبناء المقاوم الحاج العتابي، ونزلوا إلى المحل الذي كنا نجلس فيه، وفتشوا القبو وخاب أملهم لأنهم لم يجدوا أي أسلحة في الدار.
كانت المعلومات التي تتوفر لديهم، تؤكد وجود مخزن للسلاح في قبو دار بريشة. ولا بد أن فشل عملية التفتيش أربك حساباتهم.
أما أنا فلم أخبر الإخوان نهائيا بمصدر معلوماتي رغم إلحاحهم عليّ في بعض المناسبات لكي أكشف الطريقة التي عرفتُ بها أن الشرطة الإسبانية خططت لمداهمة دار بريشة بتلك الطريقة ليلا.
كانت لدي ذكريات جميلة في «دار بريشة»، التي ارتبط اسمها لاحقا بعمليات اختطاف المقاومين وتعذيبهم كما رج في عدد من الروايات، وحزّ في نفسي أن تتحول معلمة سكنها مقاومون كبار، ويرتبط اسمها بتصفية المقاومين بعد الاستقلال.