شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

«كل آت قريب»..

 

 

يونس جنوحي

 

عندما يتعلق الأمر بتاريخ المغرب، هناك دائما مقولات تتكرر وتلوكها الألسن، من بينها أن المغرب أول من اعترف باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية، أو أن جامعة القرويين، التي بُنيت سنة 859 للميلاد، أول جامعة أُسست في تاريخ الإنسانية.

وهذه المعلومات كلها صحيحة بطبيعة الحال، لكن هل نعرف فعلا تاريخ جامع القرويين؟

يُفترض أننا نحن من يجب أن نملك كل التفاصيل المرتبطة بتاريخ هذه الجامعة، من تخرجوا منها ومن درسوا فيها وعلاقة حرمها الجامعي بالأحداث الكبرى التي عرفتها البلاد.

لكن الاستغراب سوف يزداد، بل وسوف يبلغ درجة الدهشة، إذا علمنا مثلا أن أهم التفاصيل المرتبطة بتاريخ جامعة القرويين لا يملكها العلماء المغاربة، وإنما أحاط بها راهب بلجيكي اسمه «نيكولا إكلينار».

هذا الرجل الذي أقام في مدينة فاس سنة 1540م، ودرس في جامعة القرويين وحضر بعض الدروس الدينية بين أسوارها، كتب إلى أصدقائه في بلجيكا عددا من الرسائل، ضمنها تفاصيل تتعلق بتاريخ الجامعة وأسماء العلماء البارزين الذين مروا منها، ويوميات الطلبة وكيفية إلقاء الدروس وحتى ملخصات لأهم المواد العلمية التي كانت تُدرس حسب التخصصات، خصوصا علم المنطق والفلك ومدخلا إلى «مقارنة الأديان».

عندما انتبه المثقفون المغاربة إلى رسائل هذا المواطن البلجيكي، خصوصا عبد الكبير الفاسي سنة 1936، فقد أصرّ في مقال له عن الموضوع نُشر في تلك السنة على صفحات «مجلة المغرب»، على وصف هذا البلجيكي بـ «الراهب»، رغم أنه من المُستبعد جدا أن يتقبل طلبة القرويين وعلماؤها وجود راهب بينهم. والطريقة الوحيدة لولوج القرويين هي اعتناق الإسلام، خصوصا وأن الفترة التي حل فيها هذا الراهب كانت معروفة بوجود أسرى مسيحيين في المغرب، وأسرى مغاربة لدى الإسبان والبرتغال والفرنسيين. وهكذا فإن إمكانية اعتناقه الإسلام، على الأقل خلال الفترة التي أقامها في فاس، تبقى واردة جدا.

وجود «راهب» في فاس، في عهد السعديين، يبقى بدون شك حدثا في غاية الأهمية. رأيه في المغاربة والحياة العامة في فاس، وما أدراك ما فاس في ذلك العهد، يبقى مهما للغاية. تحدث لأصدقائه في الرسائل التي بعثها إليهم من فاس عن سوق الكتب القريبة من جامعة القرويين، ومضامين الكتب التي كان يصادفها هناك وهو يتجول بين الدكاكين التي لا تختلف في شيء عن زنازين سجون بلجيكا التي تعود إلى القرون الوسطى.

هذه الرسائل ليست طبعا «بطاقات بريدية» من فاس ولا بد أن طقوس كتابتها كانت محاطة بالسرية. وطبعا، فهذا الراهب لم يكن يتوجه في الصباح إلى مكتب البريد لكي يؤدي ثمن «التنبر» ويُرسل الرسالة بهذه البساطة.

بعض الأجانب عندما أقاموا في المغرب خلال فترة ما قبل الحماية، كانوا يلجؤون إلى كتابة الرسائل إلى أحبائهم، ويُضمنونها يومياتهم، ويحتفظون بها داخل حقائبهم إلى أن يُسلموها بأنفسهم «يدا بيد» إلى الذين كُتبت من أجلهم. وهناك من جمع رسائله معه، وما أكثرهم، وعندما عاد إلى بلاده نشرها في كتاب واختار له عنوان «رسائل من المغرب». وكانت مثل هذه العناوين في القرن التاسع عشر مثلا، كافية لضمان بيع كل النسخ في مدن مثل باريس ولندن وحتى نيويورك. فقد كان الرأي العام الأجنبي بحاجة إلى معرفة أي معلومة إضافية عن الحياة العامة للمغاربة، قبل أن تتوفر إمكانية التقاط الصور للمدن وسكانها.

كان هناك شخص ما، هو من تحدث لعبد الكبير الفاسي، وهو أحد أبرز قادة الحركة الوطنية، واشتغل سفيرا وأقام لفترة في مدريد وعاش من هناك في قلب تحولات مغرب ما بعد الاستقلال وصراع التيارات السياسية على السلطة، عن رسائل هذا الراهب لكي يُشير إليها في مقاله الذي نُشر قبل 88 سنة من اليوم. لقد ختم هذا الرجل مقاله بهذه الفقرة: «وتتميما للفائدة، سنتكلم عن هذه الرسائل وصاحبها بتفصيل عندما نطلع على ترجمتها كاملة عن اللاتينية وكل آت قريب».

أين هي هذه الرسائل اليوم، وهل جرت ترجمتها فعلا؟ ولماذا لم تحظ شخصية هذا الراهب -إن كان فعلا راهبا أم أن الصفة سقطت عنه في حالة ما اعتنق الإسلام- بما تستحق من الاهتمام؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى