الرئيسيةملف التاريخ

كواليس رحيل ابن عرفة وعودة محمد الخامس

نونبر 1955.. شهر ساخن اشتعلت فيه اجتماعات «سان كلو»

يونس جنوحي
« تم تأمين رحلة ابن عرفة على متن سفينة فرنسية، بينما ذهب الحاج الكتاني في سفينة أخرى بعد أن رفضت زوجاته مرافقته، فقام بتطليقهن حتى لا تتعقد أمورهن من بعده في المغرب، واحتفظ بزوجته الصغرى التي رافقته إلى فرنسا وعاشت معه آخر سنوات منفاه هناك، كما سمحت له فرنسا بأخذ مبالغ مالية مهمة معه بعد أن صفى تركته في المغرب، لينتقل إلى فرنسا.
بينما كان الحاج المقري غير موفق في ترتيب أموره، وترك خلفه قصره الفخم الذي تحول إلى خراب بعد سنة 1955، ورحل هو الآخر بعد أن تلقى وعدا من فرنسا بصرف معاش شهري له نظير الخدمات التي قدمها لفرنسا، لكنه لم يتمكن من تصفية تركته بحكم أصوله الجزائرية وامتناع شخصيات ثرية في الرباط من اقتناء العقارات التي كان يملكها رغم أنه عرض بيعها بمبالغ منخفضة للغاية. وبالتالي فإن المقري لم يأخذ معه مبالغ مهمة إلى فرنسا.
غُيب المشاركون في هذه الكواليس، وأقبرت التفاصيل معهم. عن «سان كلو» ونونبر الساخن، هذا الملف..»

أنطوان بيني.. وزير يعتذر للسلطان باسم فرنسا
الحكومة الفرنسية، ممثلة في رئيس الوزراء الفرنسي ووزير الخارجية أنطوان بيني، جلست إلى طاولة واحدة مع الملك الراحل محمد الخامس في بداية نونبر 1955. الباشا الكلاوي كان أول المباركين للملك الراحل، وأول من تحسس رقبته أيضا حتى بعد أن عفا عنه الملك وتجاوز عن تحركاته السابقة التي أدت أصلا إلى تكوين مجلس العرش لدعم ابن عرفة.
توجد مؤشرات كثيرة تؤكد أن الباشا الكلاوي كان أول مهنئ للملك محمد الخامس على عودته إلى باريس من منفاه في مدغشقر. حتى أن أرشيف الباشا يشهد بهذا الأمر. إذ لم تمض ساعات على انتشار الخبر حتى بادر الباشا إلى إرسال برقية إلى إقامة الملك محمد الخامس. والأكيد أيضا أنه كان يعلم تفاصيل عودته إلى باريس تمهيدا لعودته النهائية إلى المغرب ونهاية أزمة العرش.
كان وزير الخارجية الفرنسي رجلا أنيقا وعلى دراية كبيرة بالملف المغربي وأزمة العرش. وكان أيضا متحدثا لبقا إلى الصحافة الفرنسية التي كان يهمها مستقبل الرعايا الفرنسيين في المغرب، فور إعلان انقشاع السحابة عن العلاقة بين السلطان المغربي المنفي والإدارة الفرنسية في المغرب.
الرعايا الفرنسيون، منذ أكتوبر 1955، عاشوا قلقا كبيرا بشأن مستقبل أموالهم وممتلكاتهم في المغرب، خصوصا وأن الأمن الفرنسي فشل في ضمان سلامتهم الجسدية وسلامة ممتلكاتهم. لكن لباقة وزير الخارجية الفرنسي، جنبت الحكومة الفرنسية غضبا عارما من الرعايا الفرنسيين في المغرب، وجعلها تنحني للعاصفة. لقد باعت فرنسا في ذلك الوقت موقفها السياسي الجديد من المغرب، وقايضته بمستقبل أبنائها في المغرب.
ورغم الضمانات التي كانت متوفرة لفرنسا، لاستمرار مسؤوليها على رأس الإدارات المغربية تمهيدا للاستقلال، إلا أنها لم تستطع حيازة ضمانات أخرى بشأن مستقبل رعاياها في المغرب.
وهكذا فقد عرف المغرب عددا من العمليات التي قادتها المقاومة السرية، نتجت عنها تصفية عدد من الرعايا الفرنسيين، توزعوا بين مسؤولين في الإدارات والأمن وبين رعايا عاديين لم تكن لهم أية اهتمامات سياسية وإنما كانوا يقيمون في المغرب ولديهم ممتلكات فيه.
وحسب ما جاء في أرشيف البوليس الفرنسي في الدار البيضاء والرباط، فإن الإدارة الفرنسية أعلنت عن حالة تأهب غير عادية في العشرين من أكتوبر 1955. كانت الأنباء التي تروج في أوساط الموظفين السامين الفرنسيين في المغرب، تقول إن وزير الدفاع الفرنسي شخصيا سيكون في زيارة عاجلة إلى المغرب للاطلاع على سير العمليات الحربية.
كان الوضع محرجا، لأنه في الوقت الذي كان فيه موظفو الإقامة العامة يثبتون ربطات العنق، لاستقبال معالي الوزير، كان رائد كبير في الجيش الفرنسي يجر قدميه بصعوبة للنجاة بنفسه في منطقة الشمال الشرقي، على خلفية مواجهات عنيفة بين الفرق العسكرية التابعة له، ومقاتلين مغاربة في الجبال. تقول المعطيات المتوفرة في محاضر البوليس الفرنسي إن المواجهات استمرت لستين ساعة كاملة بدون انقطاع اتصل فيها الليل بالنهار، وتعاقبت أفواج من المقاتلين، لقنت القوات الفرنسية درسا كبيرا في الاستماتة.
وصول وزير الدفاع الفرنسي، كان إهانة كبيرة للقوات الفرنسية في المغرب، لأنه تزامن مع إحراج كبير على إثر الهزيمة التي تعرض لها الرائد الفرنسي في منطقة الشمال، ولم تشفع له انتصاراته في الحرب العالمية الثانية، التي أبان فيها عن علو كعب كبير في التخطيط العسكري لتحرير باريس من قبضة الألمان. لكنه وجد نفسه محاصرا ومجبرا على العودة إلى الوراء لتجنب الوقوع في قبضة المجاهدين المغاربة.
كان برنامج وزير الدفاع الفرنسي ضيقا، وقد خططت الإقامة العامة الفرنسية لجعل زيارته إلى المغرب «تاريخية»، لكنها اصطدمت بالواقع المغربي. إذ في الوقت الذي كان فيه وزير الدفاع الفرنسي يقوم بزيارة ميدانية لمكاتب كبار ضباط الجيش، وصلت برقية عاجلة تقول إن عسكريا فرنسيا برتبة «ليوتنان» أصيب بجروح قاتلة في اشتباك استمر ليومين كاملين، وكلف الجيش الفرنسي خسائر في العتاد، وتعرضت مجموعة من المنشآت في الثكنة للإتلاف، في حين كان عدد المجاهدين المغاربة لا يتعدى 500 رجل، ينتمون لقبائل منطقة إيموزار. كانت خسارة الفرنسيين 23 جنديا، بالإضافة إلى الـ»اليوتنان» الذي لم يصمد طويلا ليلفظ أنفاسه الأخيرة حتى قبل أن يعد تقريرا مفصلا عن مجريات المعركة التي فقد فيها ثكنة بنتها فرنسا في عشرينات القرن الماضي، على أنقاض رجال القبائل التي واجهت المد العسكري الفرنسي لعقود.
ورغم أن وزير الخارجية الفرنسية سبق له الاعتذار للملك الراحل محمد الخامس باسم الحكومة الفرنسية عن نفي العائلة الملكية إلى مدغشقر سنة 1953، إلا أن فرنسا نفذت عمليات إعدام فجائية في صفوف المقاومين في القنيطرة، وهو ما أثار غضب الملك الراحل الذي طالب فور عودته إلى المغرب في نونبر 1955 بإصدار عفو فرنسي شامل على كل المعتقلين لنزع فتيل عمليات الانتقام من الفرنسيين في المغرب. لم يكن الملك الراحل محمد الخامس يريد العودة إلى مغرب على صفيح ساخن. لكن التاريخ قال كلمته في الموضوع، واحتاجت الهدنة سنوات طويلة امتدت إلى ما تبقى من عهد محمد الخامس في المغرب، حتى بعد حصول البلاد على الاستقلال. وهكذا كان الاعتذار الفرنسي غير ذي قيمة، لأن تبعات نفي السلطان محمد الخامس والتحكم في الشأن المغربي وإشعال التفرقة في مكونات المجتمع المغربي، ترك جروحا لم تندمل بسرعة.

القضية المسكوت عنها لأيام نونبر 1955 العصيبة
حسب بعض المعطيات التاريخية التي جاءت في أرشيف تقارير المخابرات الفرنسية SDEC، فإن رحيل محمد بن عرفة عن السلطة في المغرب قد باتت قضية محسومة منذ نهاية شتنبر 1955. لقد علم الأخير من محيطه أن الباشا الكلاوي الذي دعمه وسانده في كل مراحل جلوسه على العرش بل وقبل وصوله إليه، سوف يتخلى عنه في القريب العاجل لأن المخابرات الفرنسية أخبرت الباشا أن الإرادة السياسية الفرنسية سوف تعيد الملك محمد الخامس إلى المغرب بعدما فشلت في خلق سيناريو لمغرب جديد بدون محمد الخامس وبدون الوطنيين المغاربة.
فهم محمد بن عرفة بسرعة أن الباشا سوف يتخلى عنه، وأن مستقبله في المغرب بات مهددا. سرعان ما وصلت العدوى إلى محيطه، خصوصا العالم الكبير عبد الحي الكتاني الذي دفع ثمن تشجيعه لمحمد بن عرفة، وقام الأخير بتصفية وضعيته المالية في المغرب لكي يرحل صوب فرنسا حتى لا تصبح حياته مهددة. فقد قال ابن عرفة لمرافقيه في قلب القصر الملكي بالرباط إن ضباطا فرنسيين كبارا أخبروه أن حياته سوف تصبح مهددة في الأسابيع المقبلة إذا لم يترك المغرب.
وهكذا اتضح من خلال التسريبات أن الحكومة الفرنسية سوف تفتح باب الحوار من خلال لقاء «سان كلو» مع الوطنيين المغاربة لبحث ترتيبات عودة الملك محمد الخامس إلى المغرب سلطانا شرعيا، وإنهاء أزمة العرش التي دخلها المغرب منذ 1954 ولم يستطع ابن عرفة الصمود داخل بؤرتها. لقد كانت أشبه بنقطة سوداء تبتلع كل شيء.
كانت تلك الأيام عصيبة، وربما تبقى التقارير السرية للمخابرات الفرنسية هي الشاهد الوحيد عليها، خصوصا وأن من عاشوا لم يتحدثوا عنها لأي منبر إعلامي بعد مغادرتهم المناصب، وأخذوها معهم إلى قبورهم. آخرهم توفوا في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي..

فرنسا كانت تريد إرسال فرقة لتأمين مغادرة «ابن عرفة» البلاد
في مثل هذه الأيام من نونبر 1955، كانت أسماع المغاربة جميعا في الداخل والخارج مشدودة إلى جهاز الراديو لمتابعة تفاصيل ترتيب عودة السلطان محمد الخامس إلى المغرب.
سرعان ما انتشرت، ما كان يعرف وقتها بـ «صور الفيلا»، التي كان يقيم بها محمد الخامس وأبناؤه في باريس. حيث ظهرت شخصيات مغربية أثناء استقبال محمد الخامس لهم فرادى وجماعات. كان الغرض من تلك اللقاءات ترتيب عودة محمد الخامس إلى المغرب.
شعر هؤلاء المخزنيون الذين وافقوا على قرار نفي محمد الخامس صيف سنة 1953 أن الأحداث قد تجاوزتهم بكثير وأنهم لم يعودوا ينفعون طرفا في المعادلة.
لقد انبرى عبد الرحيم بوعبيد وعلال الفاسي ثم المهدي بن بركة، وكلهم قياديون في حزب الاستقلال، لكي يصبحوا قطب عملية الترتيب لعودة الملك إلى البلاد.
كان أيضا محمد بن الحسن الوزاني، قطب حزب الشورى والاستقلال معنيا بالموضوع نظرا للمكانة السياسية التي كانت لديه واستقبله الملك محمد الخامس فعليا رغم تحفظ فريق علال الفاسي والمهدي بن بركة. هذان الأخيران لم يكونا يريدان لحزب الشورى أن يكون لديه أي مستقبل سياسي في المغرب. أو هذا على الأقل ما سجلته وثائق المخابرات الفرنسية SDEC في ذلك الشهر.
كان رئيس الوزراء الفرنسي وقتها قد توصل بتقرير مفصل من المخابرات الفرنسية مفاده أن رجالها في المغرب لم يعد لديهم أي مستقبل هناك وأنه يتعين سحبهم تماما كما سُحب امحمد عبابو سنة 1927 بعد وفاة المولى يوسف.
كانت هناك لائحة أولية، حسب التقرير، من خمسة أفراد تريد الإقامة العامة الفرنسية تأمين رحيلهم إلى فرنسا مقابل تصفية ممتلكاتهم في المغرب، وكان يتعلق الأمر بالعلامة الكتاني والحاج محمد المقري ومحمد بن عرفة، وشخصين آخرين من مكتب الباشا الكلاوي، كانا بمثابة مستشارين لابن عرفة.
لم يكن اسم الفاطمي بن سليمان معنيا، رغم أنه رُشح لمنصب الوزير الأول في حكومة كان ابن عرفة يخطط لإقامتها سنة 1954، وذلك بحكم أن الفاطمي بن سليمان كان ينحدر من أسرة مخزنية تعود علاقتها مع الأسرة الملكية إلى ما قبل عهد المولى الحسن الأول. هذا الأخير اعترض على فكرة ترحيل بعض الشخصيات إلى فرنسا، وقال لابن عرفة إنه لن يغادر المغرب نهائيا حتى لو عرضت عليه الفكرة. وفعلا بقي الفاطمي بن سليمان في المغرب واحتفظ بعلاقة طيبة مع القصر الملكي.
أما العلامة الكتاني والصدر الأعظم الحاج محمد المقري، فقد كانا المرشحين الأولين للرحيل مع ابن عرفة، لكن الأمن الفرنسي فضل أن يرحلوا على انفراد.
تم تأمين رحلة ابن عرفة على متن سفينة فرنسية، بينما ذهب الحاج الكتاني في سفينة أخرى بعد أن رفضت زوجاته مرافقته، فقام بتطليقهن حتى لا تتعقد أمورهن من بعده في المغرب، واحتفظ بزوجته الصغرى التي رافقته إلى فرنسا وعاشت معه آخر سنوات منفاه هناك، كما سمحت له فرنسا بأخذ مبالغ مالية مهمة معه بعد أن صفى تركته في المغرب، لينتقل إلى فرنسا.
بينما كان الحاج المقري غير موفق في ترتيب أموره، وترك خلفه قصره الفخم الذي تحول إلى خراب بعد سنة 1955، ورحل هو الآخر بعد أن تلقى وعدا من فرنسا بصرف معاش شهري له نظير الخدمات التي قدمها لفرنسا، لكنه لم يتمكن من تصفية تركته بحكم أصوله الجزائرية وامتناع شخصيات ثرية في الرباط من اقتناء العقارات التي كان يملكها رغم أنه عرض بيعها بمبالغ منخفضة للغاية. وبالتالي فإن المقري لم يأخذ معه مبالغ مهمة إلى فرنسا.
كان ابن عرفة في آخر أيامه في المغرب يعيش على وقع قلق أمني كبير، إذ أن فرنسا تلقت إخباريات سرية تفيد بعزم بعض أفراد الخلايا السرية للمقاومة اقتحام القصر الملكي وتصفيته جسديا، لذلك كانت فرنسا تريد إرسال فرقة أمنية مدربة لتأمين مغادرته المغرب، ليرسو القرار أخيرا على سيناريو مفاده أن يتم اصطحاب ابن عرفة ومن معه من مرافقين وحاشية، بحماية أمنية مشددة إلى نقطة مغادرتهم المغرب بحرا في باخرة وضعت رهن إشارتهم، وتأمين إقامتهم في فرنسا في الساعات التي كان يتم خلالها ترتيب عودة السلطان محمد الخامس إلى المغرب.

مفاوضات «سان كلو».. الساعات العصيبة
المفاوضات التي عرفت بلقاءات «سان كلو» لم تكن سرية. كانت تعقد بشكل علني، وكان الذين حضروها من المغاربة أو حضروا بعض كواليسها على الأقل، يحرصون على أن تصدر في اليوم الموالي صورهم في صحيفة العلم.
كان الملك الراحل محمد الخامس، حسب تقارير SDEC منشرحا ومتحمسا للعودة إلى المغرب. فقد حسم المعركة لصالحه بعد ثلاث سنوات من المعاناة المحفوفة بالحرب النفسية عليه وعلى أسرته الصغيرة والكبيرة.
قال عبد الرحيم بوعبيد وقتها إن اللقاءات مع رئيس الوزراء الفرنسي ورئيس الجمهورية كانت محفزة، مع إصرار الحركات الوطنية على ضمانات لحصول المغرب على الاستقلال من فرنسا، بالموازاة مع الجهود التي بُذلت من طرف وطنيين غابوا بعد الاستقلال عن الساحة رغم أنهم نقلوا القضية الوطنية إلى الأمم المتحدة ولعبوا دورا كبيرا في الضغط على فرنسا أمام المجتمع الدولي لمغادرة المغرب.
من بين الدول التي دافعت عن الملف المغربي، باكستان. وهذه معلومة لا يعرفها الجميع لكنها موثقة تاريخيا بحكم أن الباكستانيين تعاطفوا مع قضية الملك الراحل محمد الخامس، ووافقوا على منح شخصيات مغربية جوازات باكستانية لكي يدخلوا الولايات المتحدة لإثارة قضية استقلال المغرب.
يمكن أن نسمي إذن كل هذه الترتيبات بـ «الطريق إلى سان كلو». أو المعركة الباردة التي نتج عنها عودة الملك الراحل محمد الخامس إلى البلاد ثم حصول المغرب على الاستقلال في ما بعدُ.
صدرت تقارير كثيرة عن «سان كلو» لكنها بقيت طي الأرشيف، ولا تحظى بأي اهتمام في الذاكرة الجماعية المغربية. رغم أنها كانت على قدر كبير من الأهمية.
وهناك من يرجع الفضل فيها إلى الوطنيين بينما فريق آخر يقول إن الباشا الكلاوي لعب دورا كبيرا فيها رغم أنه لم يكن يحظى خلالها بأي مكانة تحكيمية. وربما تكون تلك الحسنة هي الشفاعة الوحيدة له لدى الملك محمد الخامس الذي عفا عنه ولم يغادر المغرب بعد عودة محمد الخامس من المنفى. بينما كان مصير الذين كان الكلاوي يحركهم بأصابعه، النفي من المغرب المستقل.
كان هذا الدور الذي لعبه الباشا في باريس، مرتبا لحل الأزمة السياسية التي لعب فيها دورا كبيرا سنوات 1952 و1953، لا شك وأنه ساهم في ضمان نهاية «سعيدة» له ليموت بين أبنائه وفي قلب داره بمراكش سنة 1956، وترحل معه أسرار عن كواليس التمهيد ليوم مباحثات «سان كلو» التي تألق فيها الوطنيون وعاد بموجبها محمد الخامس إلى المغرب.

من أرشيف البوليس الفرنسي.. هكذا كانت البيضاء بعد خبر رحيل «الخونة»
عندما ألقى الملك الراحل محمد الخامس خطابه الشهير من فرنسا، بدأ المغاربة يصدقون أن أزمة العرش قد انتهت، وأن الملك الراحل سيعود إلى المغرب لاستئناف الحُكم. لكن السياسة التي كانت تنهجها الإقامة العامة في المغرب، كانت تبعث رسائل أخرى للمغاربة، يُفهم منها أن فرنسا لا زالت تريد أن تسير الأمور بالطريقة التي يراها الفرنسيون مُناسبة.
في بداية شهر نونبر 1955، عاش المغاربة كل هذه المتناقضات. كان الخطاب الملكي يبشر بقرب العودة، خصوصا وأن فاتح نونبر من نفس السنة، كان خبر استقبال الملك الراحل محمد الخامس في إقامته المؤقتة بباريس، لكل من الفاطمي بنسليمان والباشا الكلاوي وآخرين.. أكبر مؤشر على أنه عاد إلى الصورة، وبقوة.
لكن مأساة المغاربة مع الحماية الفرنسية كانت لا تزال مستمرة رغم كل التحركات في الساحة السياسية. ففي أواخر شهر أكتوبر، جرت محاكمة بعض الوطنيين بمراكش، ووزعت عليهم أحكام ثقيلة حولت المدينة إلى مأتم كبير، خصوصا وأن الأمر تزامن مع اعتقالات أخرى في مدن وقرى متفرقة، استهدفت أسماء كانت مشهورة بعدائها الكبير لفرنسا.
ورغم ذلك فإن حدة العمليات السرية قد بقيت مستمرة، إلى درجة أن «حرب العصابات» عادت بقوة في المدن الأكثر شعبية مثل الدار البيضاء ومراكش على وجه الخصوص.
كما أن عمليات استهداف الخونة، قد بدأت تتخذ منحى آخر، خصوصا وأن الخطاب الذي ألقاه الملك الراحل محمد الخامس كان مُطمئنا، وهو الأمر الذي جعل أغلب المنتمين للخلايا السرية يقررون رفع الإيقاع، وبدء مسلسل جديد من الانتقامات لأرواح «الشهداء الذين سقطوا أو أدينوا بناء على وشايات المُخبرين المغاربة والخونة الذين كانوا يساندون الاستعمار».
وهذا الأمر ترتب عنه عمليات كثيرة، اتخذت طابعا داميا حتى بعد عودة الملك محمد الخامس رسميا إلى المغرب يوم 16 نونبر.
لقد كان يوم 2 نونبر يوما مشهودا في الدار البيضاء. فقد كانت الصحف المتفرقة فوق الرصيف، تتناول استقبال الملك محمد الخامس في اليوم السابق لأسماء بارزة من بينها امبارك البكاي، لرسم خريطة العودة وإنهاء أزمة العرش، بعد أن فرّ السلطان المخلوع ابن عرفة إلى فرنسا، تفاديا للإحراج. لكن لم يتم الإفراج عن موعد عودة الملك محمد الخامس في ذلك اليوم.
وهكذا فإن أول مخطط قام به أعضاء خلية سرية في الدار البيضاء، هو زرع قنبلة في قلب منزل كان دارا للدعارة، يتردد عليه بعض الموظفين الفرنسيين وبعض الإقطاعيين المغاربة، وتشرف عليه سيدة فرنسية بحماية من بعض الشبان المغاربة المعروفين في المدينة القديمة بالدار البيضاء.
كانت البناية أشبه بفندق عصري يوفر له البوليس الفرنسي الحماية الضرورية، لكن أعضاء الخلية السرية في الدار البيضاء استطاعوا اختراق المراقبة الأمنية، وقاموا بزرع القنبلة التي أدى انفجارها إلى خسائر كبيرة في الأرواح.
بعد ساعات، كان الحادث هو حدث الساعة بدون منازع، إلى درجة أن جل البيضاويين حجوا إلى مكان الحادث لمتابعة الحريق الذي شب في البناية، وأدى لاحقا إلى هدمها.
أعلن الأمن الفرنسي في الدار البيضاء أن الركام الذي تسببت فيه القنبلة يحول دون إنعاش بعض الجرحى، وهو ما أدى إلى احتضارهم تحت الركام قبل أن تصل إليهم يد رجال المطافئ.
من جديد، أعلنت حالة استنفار شديد في الدار البيضاء، بينما كانت الأوساط الشعبية، تؤيد العملية، خصوصا وأن الأخبار التي كانت تصل من جهات مختلفة من المغرب تؤكد أن الجيش الفرنسي لا يتوقف عن حصار بعض القرى في منطقة الأطلس، حتى مع الترويج لاقتراب انفراج سياسي في المغرب.

في أرشيف فرنسا : 16 نونبر 1955.. يوم دام خصصه المغاربة لـ «القصاص»
كان الملك محمد الخامس منذ اليوم الأول لوصوله يتوصل بتقارير مفصلة عن حالة الشارع المغربي، وتابع بدوره كيف أن أعضاء الخلايا السرية للمقاومة، وأيضا المنتسبين للحركة الوطينة الذين ظهروا فجأة بعد أشهر طويلة من الاختفاء مخافة الاعتقال على يد الأمن الفرنسي في المغرب، كانوا يقومون بعمليات عشوائية تستهدف الفرنسيين وممتلكاتهم.
على بُعد أمتار فقط من القصر الملكي في الرباط، بدأت أولى عمليات تصفيات الخونة.
كان المكان الذي يحتله البرلمان المغربي اليوم، مسرحا لعملية تصفية أربعة بشاوات على الأقل. أحدهم كان يمارس مهامه في الرباط، وآخرون اقتيدوا فقط إلى المكان لتصفيتهم على مرآى ومسمع من المارة. كان الفرنسيون يكتفون بالتفرج، لأن التعليمات القادمة من الإقامة العامة كانت تلزم البوليس الفرنسي بعدم التدخل نهائيا لفض أي نزاع مغربي-مغربي، مخافة انفجار الأوضاع أمنيا.
وهكذا صفي «البغدادي»، أحد أشهر الأعيان المغاربة الذين اتُهموا بالخيانة العظمى، بسبب علاقاته الوطيدة مع الفرنسيين وتلته شخصيات أخرى تفاوتت أهميتها بحسب علاقتها بالفرنسيين وليس بسبب ترتيبها في السلم الإداري.
تعرض مغاربة من الأعيان أيضا للتصفية الجسدية، وتم استهداف آخرين، كان ذنبهم فقط أنهم أصبحوا من مؤسسي البرجوازية المغربية، ونجحوا خلال فترة الحماية الفرنسية في تأسيس حياتهم المالية والاقتصادية في المغرب، بشكل عصري مكنهم من احتلال مكانة اجتماعية مهمة.
قتل أزيد من خمسين مغربيا، خلال الأسبوع الثاني من نونبر 1955، كانوا جميعا يمتلكون إقامات فخمة في الرباط وسيارات فارهة، وكانوا يعيشون حياتهم على الإيقاع الجديد لحياة الخمسينات.
بعض هؤلاء تعرضوا للاغتيال، وآخرين أتلفت ممتلكاتهم، بتحريض من منافسين لهم في الساحة الاقتصادية، وألصقت بهم تهمة الخيانة رغم أنهم كانوا بعيدين تماما من ربط أية صداقات مع الأسماء المعادية للمغرب. الأكثر من هذا أن بعضهم قاموا فعلا بتقديم تبرعات للمقاومة، بل إن أحدهم، وكان اسمه بن موسى البحراوي، كان يعمل على تهريب المقاومين المبحوث عنهم إلى خارج منطقة النفوذ الفرنسي، مستغلا نشاطه الاقتصادي المتمثل في نقل مادة الكرطون من الدار البيضاء، من معمل فرنسي في سطات، إلى منطقة الناظور لتغليف المواد التي كان يصدرها إلى إسبانيا، وهكذا كان ينجح بسهولة في تمرير عدد من أعضاء الخلايا السرية المبحوث عنهم من طرف فرنسا، إلى المنطقة الخلفية مرورا عبر النقطة الأمنية الشهيرة التي كانت تقسم المغرب إلى منطقتي نفوذ: فرنسية وإسبانية.
وكان مصير الرجل في النهاية هو الإدانة بالخيانة العظمى بدون محاكمة، وتم اقتحام مكتبه بالشواقير، ليترك مضرجا في دمائه، رغم أن اسمه لم يكن في لائحة الخونة التي أعدها المنتسبون للمقاومة.
لقد كانت بعض العمليات القذرة هي التي كدرت فرحة الملك الراحل محمد الخامس، بالعودة إلى المغرب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى