
أتذكر كيف وجه لي سائق سيارة الأجرة نظرات امتعاض واستهجان حين عبرت عن انزعاجي من الاكتظاظ الخانق بأزقة «درب عمر».. حيث أطلق مول الطاكسي العنان للمحلل الاقتصادي والجيوستراتيجي الكامن فيه، وشرع في تفسير الأهمية الحيوية التي يلعبها درب عمر في اقتصاد البلاد ومساهمته المركزية في الدفع بعجلة التنمية إلى الأمام.. بل أكد أن الوزن الاقتصادي لدرب عمر لا يقل أهمية عن دور ميناء طنجة المتوسط.
لا أنكر أنني اقتنعت بكلام الرجل الذي بدا منطقيا ومرتبا لا تنقصه سوى ربطة عنق وشاشة خلفية خضراء وصوت مشوش لأحد الصحافيين وهو يقول: آلو أستاذ هل تسمعني؟..
ولعل الصورة الوردية التي رسمها مول الطاكسي للشريان الاقتصادي النابض للمملكة كانت سببا في اختيار درب عمر كموقع لتصوير العديد من مشاهد فيلم Matchbox لنجم الشباك الأمريكي «جون سينا».. حيث تتبعنا، على مدار الأسابيع الماضية، الكواليس الحماسية التي اتخذت من قلب الدار البيضاء مسرحا لها. فهل تصبح المدن المغربية الكبرى وجهة سينمائية لشركات الإنتاج العالمية؟
وفي هذا السياق، راجت، أخيرا، أخبار حول تصوير الجزء الرابع من السلسلة الدرامية الشهيرة The White Lotus بمراكش، وهو الخبر الذي أسعد متابعي المسلسل وعشاق المدينة الحمراء على حد سواء.. صحيح أن عاصمة البهجة ليست بحاجة إلى ترويج أو تسويق سياحي، غير أن فوحان عبق وردة اللوتس البيضاء في أرجاء مراكش سيمنح المدينة رونقا وعمقا متفردين.. فكيف ذلك؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال دعونا أولا نتجول في خبايا قصة هذا العمل الدرامي الفريد من نوعه، يجوز لنا القول إن الحبكة الرئيسية جعلت من رفاهية وسطحية الإنسان الأمريكي الأبيض محورا أساسيا تدور في فلكه كل التفاصيل والأحداث. لقد عالج المسلسل تيمات عميقة وحساسة في قالب كوميدي ساخر.
جدير بالذكر أن أنطولوجيا زهرة اللوتس البيضاء من تأليف المبدع مايك وايت الذي اتخذ على عاتقه عبء تفكيك سيكولوجية الإمبريالية الغربية من خلال شخوص تعكس الإحساس المفرط بالاستحقاق لدى الرجل الأبيض. ركز مايك وايت، في الجزء الأول، على رمزية جزيرة «ماوي» كأرض مقدسة لدى الشعوب الأصلية لأمريكا، وكيف تعرضت للاحتلال الأوروبي وتم استعباد المزارعين والعمال في المنتجعات السياحية الفخمة خدمة للرجل الأبيض الذي يدفع آلاف الدولارات ليبحث عن معنى لوجوده.. مفارقات غريبة تعري التناقض الصارخ الذي يحكم العالم. انتقلت القصة، في جزئها الثاني، إلى إيطاليا حيث «النساء أخطر من البنادق». تطرقت الحبكة الإيطالية إلى تيمات، كالخيانة الزوجية ومشاكل التعلق العاطفي المفرط، إضافة إلى التركيز على فقدان قيمة الامتنان والشكر في الثقافة الغربية، حيث أصبح الإنسان في تلك البقعة الأكثر حظا في العالم بمثابة «نݣار» يستصغر النعم العديدة التي يتمتع بها دون أن يضطر إلى أن يكون وجبة للقرش المتوسطي، أو أن يقطع مئات الكيلومترات سيرا على الأقدام في غابات رومانيا أو أن يُمَثّل بجثته أثناء حرب أهلية هنا وانقلاب حكومة موز هناك..
لم تسلم المرأة الغربية من مقصلة مايك وايت الذي صورها كإنسانة سطحية تدعي البحث عن الحقيقة الروحية في معابد بوذا أو شواطئ ماوي، بينما تترك بقشيشا على طاولة عاملة ماساج من المرجح أن قبيلتها طُردت من أرضها وجُردت من ممتلكاتها في سبيل تشييد منتجع سياحي مصنف. شخصية «بايبر»، الفتاة البيضاء المدللة التي صدعت رؤوسنا بعزمها على اعتناق البوذية والعيش في دير متواضع بين الرهبان حليقي الرؤوس، لم تصمد لليلة واحدة على سرير المعبد الرث ووجبة الطعام الرديئة، لتعود باكية إلى حضن «الريزورت» الفاخر.. «بايبر» رمز لجيل جديد من النساء الغربيات اللواتي يستجدين الألم ويتوسلن المعاناة.
وبالعودة إلى خبر تصوير الجزء الرابع من زهرة اللوتس البيضاء في مراكش، لا نملك إلا أن نتساءل عن المقاربة الثقافية الدرامية التي سيصور بها مايك وايت المغرب. كما هو معلوم، لطالما عملت هوليود على اعتماد المركزية الغربية البيضاء كنافذة تطل بها على «الشرق»، ابتداء من لورانس العرب مرورا بمصباح علاء الدين وانتهاء بفيلم «بابل» الذي صور المغرب كرقعة متخلفة من العالم. من المحير جدا كيف يصر منتجو هوليود على تقديم منطقة «مينا» وكأنها لازالت تعيش في العصر البرونزي.. رغم أن هؤلاء المنتجين يستمتعون أثناء عمليات التصوير بجمال وكرم بلادنا، وتُسخر لهم جميع وسائل التكنولوجيا التي نتوفر عليها كمواطنين ننتمي لدول سائرة باجتهاد وتفان في طريق التنمية والتطور. لماذا يصر الرجل الأبيض على التمسك بصورة متجاوزة لما كانت عليه الهند أو مصر أو المغرب؟
أتذكر الجزء الأول من المسلسل الشهير «هوملاند» الذي صُورت بعض مشاهده في الرباط قبل سنوات، على أساس أنها مشاهد من قلب العاصمة الإيرانية طهران. غير أن الديكور الخارجي عكس الجهل الثقافي الفظيع لصناع العمل، منذ متى كان الإيرانيون يستعملون الصينية الفاسية والبراد؟ ومنذ متى تحدثت فارس بالدارجة المغربية؟ ومنذ متى يستقل الإيرانيون الطاكسي البيض المتوجه من حي المحيط إلى حي الفتح؟ كلها ملاحظات توقفت عندها بتعجب وامتعاض من المستوى المعرفي الضحل للرجل الأبيض الذي لا زال يتعامل بعقلية استعمارية مع الآخر المختلف.