الرأي

من الزويرات إلى تيندوف

استوقفتني شابة صحراوية ذات مساء، قالت إنها تعد بحثا جامعيا في موضوع تطورات قضية الصحراء. ورغبت في أن تفهم ما هو أبعد من الأرقام والتواريخ، وطرحت سؤالا نبيها: لماذا اختار مؤسسو جبهة بوليساريو الانفصالية مدينة الزويرات الموريتانية لاحتضان أول لقاء لهم؟
استفسار في محله، لعله أبلغ من أي جواب، كونه ينصرف إلى تقصي البدايات التي تحيل على التوجهات. غير أن الموريتانيين أدركوا أن الزج ببلادهم في أتون صراعات مع الجار المغربي، كان مكيدة مضللة.. خصوصا حين سمع الرئيس الموريتاني المختار ولد دادة ما لا يعجبه من الرئيس الجزائري هواري بومدين في لقاء استضافته مدينة بشار.
أجبت تلك الشابة المدثرة بعباءة صحراوية بسؤال مماثل: هل تعرفين أن أول جبهة ذات توجهات وحدوية، كان اسمها «موريهوب» وتعني «حركة الرجال الزرق»؟ دهشت لذلك، خصوصا حين أردفت أنها تأسست في الجزائر وليس موريتانيا، وأن الرجل الذي كان وراء انطلاقها يدعى محمد الركيبي الذي كان اسمه المستعار «إدوار موحا»، والفرق بينه ومؤسسي الجبهة الانفصالية أنه تعرض لأكثر من محاولة اغتيال، لأنه كان يرفع شعارات وحدوية.
سبق تأسيس «موريهوب» جبهة بوليساريو ببضعة أشهر، فقد تحولت مسألة استمالة الشباب الصحراويين إلى قضية محورية، لكن إدوارد موحا لم يكن ليتقبل إملاءات رجل الاستخبارات الجزائرية سليمان هوفمان. وأدرك وقتذاك أن المنافسة بين ليبيا والجزائر وبعض الأوساط الأقلية في موريتانيا هدفها إفراغ الملف من مضمونه، ليصبح ورقة ضغط ضد المغرب، لا أقل ولا أكثر.
أعود إلى نشأة بوليساريو في «الزويرات»، فقد عرف عن الشيخ خطري ولد سعيد الجماني، الذي كان يرأس الجماعة الصحراوية، بمثابة برلمان، إبان الاحتلال الإسباني للساقية الحمراء ووادي الذهب، أنه رفض توجهات الجبهة في حينه. ورد على المتشددين من الشباب الصحراويين بأنه يحمل في عنقه أمانة وحدوية لن يحيد عن الوفاء بها. فكانت تلك بداية قطيعة لم تنزع عن أسد الصحراء، كما كانوا يلقبونه، صفة التقدير والاحترام، على رغم الاختلاف.
وجاء اختيار الزويرات باقتراح من وزير الداخلية الموريتاني آنذاك، في سياق يهم إغراق الملف في متاهات الأطراف المهتمة أو المعنية. تلك المقولة التي كانت تخفي أطماعا إقليمية، سيتم التعبير عنها بصورة مكشوفة، يوم اقترحت الجزائر على إسبانيا إبرام اتفاقية تدوم نصف قرن، حول الاستغلال المشترك لثروات الإقليم. فقد التقت أهداف مدريد والجزائر عند نقطة واحدة، تهم اقتسام النفوذ السياسي والاقتصادي على المنطقة، فيما ذهب متشددون موريتانيون، وهم أقلية غير مؤثرة، في اتجاه البحث في إقامة حاجز ما بين بلادهم والمغرب، ولم يكن الأمر أكثر من مصيدة.
ترجع البدايات إلى تحولات طرأت على الساحة السياسية في المغرب والجزائر وموريتانيا. وعندما لم يكن أحد يفكر في إمكان تعكير صفو العلاقات الثلاثية التي تدرجت عبر محطات، توجت بتفاهمات أقرب إلى تشكيل جبهة موحدة ضد الاستعمار الإسباني في الصحراء. قفزت إلى الواجهة نبرات غاضبة أطلقها شباب مغاربة وآخرون يتحدرون من أصول صحراوية، راهنت على إمكان حدوث تغيير تنطلق شرارته من الجنوب.
كانت الشعارات مغرية تخفي بين ثناياها مسلسلا طويلا من المناورات. وبدا أن بعض ملامح ذلك التغيير لم تكن تزيد عن تسخير الشاحنات الجزائرية لتقل مواطنين صحراويين إلى تيندوف التي كانت بدأت في الإعداد لإقامة مخيمات اعتقدت أنها ستفرغ الصحراء من ساكنتها، لولا أن أهلها صمدوا في وجه تلك المناورات. ولازال مطلوبا من عقلاء إسبانيا الذين اندفعوا وراء ذلك المخطط، الإدلاء بشهادات حول الظروف التي كان يتم فيها نقل المواطنين الصحراويين إلى تلك المخيمات المشؤومة.
إنها لصورة مأساوية أن يكون حلم التغيير القادم من الجنوب اتجه إلى الشرق، حيث سيتم استبدال واقع الإقامة في مدن عصرية شيدها المغاربة وإخوانهم الصحراويون الوحدويون، بمخيمات ينسجها عساكر الجزائر. إنها الصراعات بين الجنوب والشمال، لا تخص العوالم التي مزقت على قدر الغنى والفقر والتقدم والتخلف فحسب، بل شملت دولا قائمة الذات، يحز في نفسها بقاء مواطنيها يعانون من ظروف الاحتجاز، بعد أن تحولوا إلى رهائن.
ويبقى أن القائل إن متعصبي الزويرات أساؤوا كثيرا لأهل الصحراء، كان محقا. ولم ينتبه أحد منهم إلى أن التسهيلات التي كانت تمنحها السلطات الإسبانية لانفصاليي بوليساريو، إنما كانت تخفي فكرة غرس الأحقاد ومفاهيم التجزئة. وما من أحد يكلف نفسه عناء مراجعة التاريخ الذي قيل عنه إنه ليس كراسا نصلحه بالحبر الأحمر.
إنه شيء آخر يحمله الإنسان على كتفه وبين ضلوعه، ويترنح كثيرا إن أخطأ في قراءة معانيه وعبره. وأي تقسيم أفظع من تجزئة العوائل والأرحام وأرض المنشأ والنهاية.
وهكذا انتهت أشواط رحلة من الزويرات إلى تيندوف. وحل وفاق مغربي – موريتاني ثابت، لا تفسده غير نزعة عزلة ارتمت فيها الجزائر من العاصمة إلى تيندوف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى