الرأي

آباء و آباء

انتماء أسرة معينة للطبقة الوسطى يجعلها أكثر اهتماما بمسألة التثقيف والتعليم، لذلك تحتل دراسة الأبناء مركزا محوريا في حياة هذه الأسرة، ومن الطبيعي أن تحظى شهادة الباكلوريا تحديدا بهالة نفسية واجتماعية تتعدى كونها مجرد شهادة تُنهي مسارا دراسيا وتأذن ببداية مسار آخر. وهنا تحديدا الوجه الدرامي لتعاطي أغلب أسر الطبقة الوسطى مع هذه الشهادة. فأسر الطبقة الوسطى، هي الأسر التي حصل أفرادها على مكانة اجتماعية واقتصادية بفضل الدراسة والتعلم والتكوين الأكاديمي والذاتي، وهي خلافا للطبقتين الغنية والهشة، تنظر للشهادات والنقط المحصل عليها نظرة مختلفة، لكونها تؤمن بأن مستقبل أطفالهم يتقرر بشكل كبير من خلال النقطة التي حصلوا عليها في شهادة الباكلوريا وغيرها من الشهادات الأكاديمية. فهذه النقطة هي التي ستجعل أطفالهم إما مهندسين وهذا هو الاختيار الأول، أو أطباء وصيادلة، وهذا هو الاختيار الثاني، أو مجرد “عاطلين” مع وقف التنفيذ، في انتظار ما ستسفر عنه تكوينات الجامعات وباقي الاختيارات التكوينية غير المضمونة. ليبدأ انطلاقا من هذا التمثل ضغط كبير على الأبناء، يرقى أحيانا إلى مستوى “الإرهاب النفسي والعصبي”.
إن ما يعيشه آلاف الشباب الحاصلين على شهادة الباكلوريا من ضغط نفسي وعصبي هذه الأيام، مع قرب الإعلان عن نتائج الانتقاء الأولي للأقسام التحضيرية يرقى إلى مستوى “الجريمة”، وهي جريمة حقيقية يمارسها الآباء ويساهمون فيها عن سبق إصرار، وصلت حد أن يوبخ بعضهم أبنائهم بسبب حصولهم على معدل 17/20 ولم يحصلوا على معدلات أكبر. وبدل تحديد النجاح الشخصي بمعايير نفسية ووجدانية وعقلية وثقافية يتم اختصاره في رقم قد لا يعكس بالضرورة مستوى التلاميذ، ومن يعرفون الظروف التي يتم فيها التصحيح مثلا، أو يطلعون على ما تقوله أبحاث علوم التربية عن التقويم، يفهمون جيدا أن المعدلات تبقى مجرد أرقام وتقديرات مهما بالغ البعض في تدقيق معايير التصحيح.
صحيح أن للأمر علاقة بهذا النظام التربوي الانتقائي الجبار الذي ورثناه من فرنسا، والذي يفصل مدارس المهندسين عن الجامعات، بالشكل الذي أوضحه بدقة بيير بورديو في أبحاثه السوسيولوجية، غير أن للآباء نصيب كبير في تعميق كوارث هذا النظام التربوي، بحيث وصلنا إلى الحد الذي أضحى فيه الحصول على ميزة “حسن جدا”، وهي أعلى ميزة في شهادة الباكلوريا، غير كاف. وأصبح الحصول على معدل 16 أو 17/20 “كارثة” تستحق المواساة و “التعزية”. بل وتدفع تلميذة أو تلميذا إلى حد الانتحار أو محاولة الانتحار. فقط لأنه/ها لن يتمكن من الالتحاق بمركز للأقسام التحضيرية بعينه في المغرب أو في فرنسا.
العديد من الأطفال يتعرضون لضغوطات نفسية كبيرة تصل حد الانهيارات العصبية لأن آباءهم ينظرون إليهم كمشاريع استثمارية، أي ك”بقر” يجب تسمينه بجميع الوسائل والمواد لتكون مربحة بحليبها أو بلحمها وشحمها. والعديد من هؤلاء الأطفال لهم إمكانات وجدانية وعقلية وجسدية ليكونوا أشخاصا رائعين ومبدعين وسعداء، مهما كانت المهنة التي سيزاولونها، ليتحولوا بسبب هذا الضغط إلى آلة من الأمراض العصبية والعقد النفسية .
قد يتحاج هؤلاء الآباء لعلاج نفسي مطول ليدركوا بعدها بأن فشلهم هم في الحصول على مهنة مهندس أو طبيب لا يبرر لهم ترهيب أبناءهم لتعويضهم هذا النقص، كما لا يبرر لهم تبني هذه النظرة الاستثمارية الفجة اتجاه أبناءهم، لأن الكثير من هؤلاء الآباء، حولوا أبناءهم، بين عشية وضحاها، من مشاريع مهندسين إلى زبناء دائمين للمحللين النفسانيين. وبدل أن يناموا قريري العين لكون أبناءهم سعداء هاهم ينامون نوم الذئاب بعين واحدة خوفا من أن يلقي الإبن أو البنت نفسه من شباك مفتوح أو يتناول سما في غفلة عنهم. لذلك يحتاج العديد من أفراد الطبقة الوسطى الكثير ليتعلموه عن معنى النجاح ومعنى السعادة، ليدركوا بأن ما يرتكبوه في حق أبناءهم يجعل منهم ببساطة آباء أنانيين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى