أولاد خدام الدولة…نعيمة لهبيل التاجموعتي (ابنة أول رئيس حكومة في المغرب بعد الاستقلال)
أولاد خدام الدولة أبناء لا يعيشون في جلابيب آبائهم

زكى المستعمر الفرنسي سيطرة أبناء الأعيان على المناصب العليا، وكرس من خلال نشر «مدارس الأعيان» في البلاد، ظاهرة تناسل النخب السياسية من نفس العائلات، إلى أن أصبحنا أمام شجرة عائلات وزراء المغرب.
لكن مع مرور الوقت تغيرت المفاهيم ولم يعد ابن الوزير بالضرورة «عواما» في بركة السلطة، ولم يصبح ابن الوزير وزيرا بالوراثة، ولم تحفظ الحقائب الوزارية لتسلم إلى الأبناء، بعد اعتزال الآباء.
اليوم غالبية أبناء وبنات خدام الدولة يفضلون الاشتغال خارج دائرة السلطة، بعيدا عن الأضواء، بل يرفضون الظهور في وسائل الإعلام، ومنهم من رفع في حياته شعارا: «لن أعيش في جلباب أبي».
نعيمة لهبيل التاجموعتي (ابنة أول رئيس حكومة في المغرب بعد الاستقلال)
المرأة التي سحبتها الكتابات الروائية من صخب السياسة
ولد البكاي بن مبارك لهبيل سنة 1907 في قبيلة بني يزناسن بشرق المملكة، في السنة نفسها التي ولد فيها السلطان محمد الخامس، والسنة ذاتها التي احتلت فيها القوات الفرنسية مدينة وجدة.
اختارت له والدته اسم «البكاي» تيمنا بأحد الأولياء الصالحين، حيث لم تنجب والدته أبناء لفترة طويلة، فلجأت إلى ضريح سيدي علي البكاي، وعندما وضعت طفلها الأول والوحيد، أطلقت عليه اسم الولي. كانت والدة البكاي «طاما» امرأة ذات شخصية قوية، حملت لقب «لقايدة طاما».
أول وزير للحكومة ابن قائد اختطفه الفرنسيون
توفي والده في ظروف غامضة، وكان عمر الفتى البكاي لا يتجاوز السبع سنوات، وذلك بعد اختطافه من الجيش الفرنسي وإيداعه سجن وجدة، هناك لفظ أنفاسه، دون معرفة أسباب الموت.
درس كباقي أقرانه في المسيد، قبل أن يتدرج في التعليم الابتدائي، لكنه سيلتحق بالثانوية التي حمل اليوم اسم «أبي الخير» في بركان، وكانت مؤسسة تخضع للنظام التعليمي الفرنسي.
لكن أولى خطوات تعليم البكاي كانت في المدرسة العسكرية بمدينة مكناس. حين انضم إلى الجيش وخضع لتدريب، ثم تخرج برتبة «ملازم»، ما أهله للمشاركة في مناورات بالشام، قبل أن يشارك كضابط ميداني في الحرب العالمية الثانية ضمن الجيش الفرنسي، أثناء تلك الحرب، أصيب في رجله اليمنى وتم أسره من قبل الألمان، وبسبب إصابته تم بتر ساقه، قبل ترحيله إلى المغرب في إطار عملية تبادل للأسرى.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، تحول البكاي بن مبارك لهبيل إلى العمل السياسي والنضال من أجل الاستقلال. عمل على دعم الحركة الوطنية، حيث تم تعيينه قائدا على منطقة بني درار، وفي مرحلة ثانية سيعين كباشا على مدينة صفرو، ثم قاد جهودا لنيل الاستقلال، رافضا وضع يده في أيدي القواد الذين طالبوا بإنهاء مهام السلطان، وعلى رأسهم التهامي الكلاوي.
بعد استعادة المغرب لاستقلاله، شهدت المرحلة ميلاد أول حكومة مغربية. تم تشكيلها في عام 1956، وكان البكاي بن مبارك الهبيل هو رئيسها، لعدم انتمائه السياسي وكفاءته في الترافع.
ستسقط حكومة البكاي الأولى والثانية، وسيعلن عن ميلاد حكومة جديدة يقودها أحمد بلافريج، في ماي من سنة 1958، وهو ما جعل الرجل يتوارى إلى الخلف وانشغل بتكوين حزب سياسي، أطلق عليه التجمع الشعبي الذي سيتحول إلى حزب الحركة الشعبية. وفي 12 أبريل سنة 1961 توفي مبارك البكاي، وبناء على وصيته دفن في مقبرة كدية مولاي الطيب ببركان.
ومن المفارقات الغريبة أن يرحل البكاي إلى دار البقاء، في أربعينية السلطان محمد الخامس.
نعيمة تسائل: «من هو سي البكاي؟»
حين توفي البكاي لم يكن عمر ابنته الصغرى نعيمة يتجاوز سبع سنوات، لم تعاصر والدها أيام شغله منصب الوزير الأول في أول حكومة بعد الاستقلال، ولم ترافقه في أسفاره السياسية، لكنها راكمت مجموعة من الذكريات ومن المشاهد التي علقت بذاكرتها، قبل أن تقرر الغوص في أعماق الأرشيف الفرنسي، وتنفض الغبار عن شخصية والدها الذي انتقل من قائد قرية صغيرة إلى رئيس حكومة، ثم تخلص إلى كتابة سيرة والدها من خلال مؤلف يحمل عنوان: «من هو سي البكاي؟»، بكل ما يحمله العنوان من تقدير لوالدها.
لم يدخل عاشور، ابن البكاي، وشقيقته نعيمة عالم السياسة، ولم يؤمنا بالمثل القائل: «كان أبي»، بل إن جميع أفراد عائلة البكاي لم يحولوا المنصب الذي تبوأه الوالد إلى ريع دائم.
أخذت نعيمة مسافة طويلة بين السياسة، واختارت الكتابة ومناجاة القلم والغوص في الروايات المحشوة بالتاريخ، من خلال كتب حول مدينة فاس والمدينة العتيقة وتراثها، بعد سنوات من الأبحاث، سيطر عليها هاجس الكتابة، بعد أن قررت تحويل خواطرها وكتاباتها ومداخلاتها في كثير من الندوات إلى مادة مقروءة.
شغلت نعيمة لهبيل التاجموعتي، التي تعمل على البعد الاقتصادي والاجتماعي للثقافة والتراث، وهي أستاذة الاقتصاد بجامعة فاس من 1980 إلى 2006، ثم مديرة مؤسسة «روح فاس» ومهرجان الموسيقى العالمية العريقة، مهام أخرى كعضوية مجلس إدارة الصندوق الدولي للنهوض بالثقافة في اليونسكو منذ عام 2018، كما ترأست الجمعية الثقافية الأمريكية.
سيرة الوالد.. أسباب النزول
في كل كتاباتها يشم القارئ رائحة التاريخ، لكنها لم تكن من طينة الكتاب الذين ينجبون الكتب بمعدل ثلاثة كتب في السنة، بل كان نعيمة تحرص على أن يأخذ ما يكفي من الوقت كي تكتمل أعضاؤه.
وللكاتبة أعمال أخرى: «رجل واقف» و«القائمة» و«حوار في المدينة» وغيرها من الأعمال الأدبية.
«الدافع الأقوى الذي جعلني أقرر أن أمضي في كتابي عن والدي، لكن هناك دلالة رمزية من وراء هذه القصة، تبقى غريبة جدا. ومكمن الغرائبية هنا أن البكاي ولد في نفس العام الذي استسلم فيه والده، ونفس العام الذي رفع فيه الفرنسيون أول علم لهم في المغرب قبل الحماية. وهو نفسه الرجل الذي سوف يوقع يوم 2 مارس 1956، على وثيقة الاستقلال التي تلغي هذه الحماية».
أنا وأخي من أجل «البكاي»
ليست نعيمة هي الوحيدة التي اختارت تقليب أوراق سيرة والدها، بل إن شقيقها الأكبر عاشور قد سبق أن تناول في كتاب واقعة اغتيال والد البكاي، قال فيه إن جدته والدة سي البكاي، هي التي حكت له عدة وقائع مسكوت عنها. قالت له إن المختطفين جاؤوا فجرا ونفذوا الاختطاف، وإنها قضت مدة وهي تتردد باستمرار على سجن وجدة لاقتفاء أخباره، والاحتجاج لدى الفرنسيين. فقد كانت مقتنعة أن الفرنسيين هم الذين اختطفوه، لكنهم أنكروا أي صلة بموضوع اختفائه.
تسعى نعيمة إلى ترجمة أعمالها إلى الأمازيغية، على اعتبار أن البكاي كان أمازيغيا.





