قراءات صيفية …في أن تكون مغربيا حسب الخطيبي
قراءات صيفية... "الكاتب وظله" للخطيبي..

في أن تكون مغربيا الخطيبي
محطة أخيرة من سيرة مثقف كوني يحب بلده
مرت 16 سنة وخمسة أشهر على رحيل الكاتب والفيلسوف والروائي وعالم الاجتماع المغربي العالمي عبد الكبير الخطيبي. إنه الظاهرة الإبداعية التي لم تقتصر تأثيراتها الثقافية والفكرية والعلمية في حدود الوطن، بل استطاع أن يضع له مكانة خاصة، ومحترمة جدا في الأوساط الأكاديمية الفرنسية والأوروبية. وعندما نتحدث عن ظاهرة، فنحن نقصد قدراته الفريدة على تحويل الكتابة عن الثقافة المحلية لشأن كوني، وتحويل الكتابة عن الهامش والمسكوت عنه لشأن يعني المركز والمفكر فيه، بل وتحويل المسارات الذاتية لشأن يعني الآخرين أيضا. وهذا تماما ما نجده في كتابه “الكاتب وظله Le Scribe et son ombre”. فنظراً لهذه القدرات الخارقة اكتسب عبد الكبير الخطيبي مكانة عالمية، وفرض احترام العديد من الكتاب والمفكرين العالميين، من بينهم الناقد الفرنسي رولان بارت، الذي قال عنه: “أهتم، أنا والخطيبي، بأشياء واحدة؛ الصور، والدلالات، والآثار، والحروف، والعلامات. وفي الوقت نفسه، يعلمني الخطيبي شيئاً جديداً، ويخلخل معرفتي؛ لأنه يُغير مكان هذه الأشكال في بصري؛ ولأنه يحملني بعيداً عن ذاتي، في بلده الأصلي، وكأنني في أقصى نفسي”.
الكاتب يخط ظله أشهرا قليلة قبل الرحيل
كتاب “الكاتب وظله” هو آخر مؤلف للخطيبي، صدر قبل أشهر من رحيله. لذلك اعتبره كثيرون بأنه “اللحن الأخير”، لذلك لا يخلو من طابع شخصي واضح، وكأن الرجل يكتب وصيته. من هنا يعتبر هذا الكتاب بمثابة الجزء الثالث من روايتين سابقيتين تعتبران بمثابة حلقتين من السيرة الذاتية لابن دكالة. مع التشديد هنا على أن هاتين المحطتين خرجتا عن النمط المعروف في كتاب السير الذاتية التي غالبا ما تركز على المناقب والفضائل، وتتجه دوما اتجاها خيطيا تصاعديا، بدءا من الولادة وصولا للذروة، والتي غالبا ما تكون نجاحا أو انتصارا، ونقصد هنا روايته (الذاكرة الموشومة)(La mémoire tatouée) ، الصادرة سنة 1971، التي رصد فيها الكاتب مسار حياته، بدءاً من الولادة، إلى حصوله على شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون في فرنسا، ورجوعه إلى المغرب، ثم رواية (حج فنان عاشق) (Pèlerinage d’un artiste amoureux) ، الصادرة سنة 2003، التي حاول الكاتب فيها ملامسة حياة جده الرايسي، والذي توفي سنة 1960.
يضم الكتاب 128 صفحة مقسمة إلى 11 فصلا. تتناول أسئلة تتعلق بقضايا عزيزة على الكاتب والمفكر. ولأن الأمر يتعلق بما يشبه سيرة، فإن الخطيبي لم يخف منذ المقدمة دوافعه الخاصة بأن يخط ظله خصوصا بعد أن تمكن منه المرض، وأبى إلا أن يستمر في نضاله الثقافي والفكري، فما كان منه إلا أن استجاب لطلب أحد أصدقائه، يقول: “أكتب هذا الكتيب بطلب من صديق يقظ، اقترح علي أن أقدم للقراء مساري الشخصي كمثقف، وافقت، على الرغم من ترددي المعهود، وعلى الرغم من الصعوبات الخطيرة جداً، التي يواجهها مثل هذا النموذج من السيَر. سواء أكانت لطيفة أو قاسية، فإن السيرة تُختزل في كونها كاريكاتوراً لشبحنا الشخصي الضائع في حياة الآخرين. تشهد بصدق ووضوح على نفسك، وعلى الآخرين، يا له من رهان على الحقيقة”.
يقدم لنا كتاب الخطيبي “الكاتب وظله” اعترافًا أدبيًا وفكريًا هامًا، يرصد مسيرة هذا الرجل الذي ترك بصمته على معاصريه المغاربة والمغاربيين، وبعض المفكرين والكتاب الفرنسيين. ويشهد هو نفسه على ذلك في أحد فصول كتابه. هذا التأثير وهذا القرب يطالان الإنتاجين الفرنسي والعربي على حد سواء. وهذا يُظهر مدى قدرة الخطيبي على بلورة تصور أدبي متكامل مع رؤية فكرية تُخضع المجال الثقافي المعاصر لأسئلة غير مسبوقة.
معنى أن تكون مغربيا
منذ بداية كتاب “الكاتب وظله”، يُبرز عبد الكبير الخطيبي فقرتين لتسليط الضوء على رحلة الكائن نحو هويته، وهو مسار لا يُتاح إلا من خلال الإنصات الداخلي للاوعي، ظله، هذا الآخر الذي يُشير إلى علاقة غيرية. تُبرز هذه الفقرة تحدي اللغة المكتوبة التي تنتقل من الأدب إلى الفكر، بقدر ما يُشرك الحديث عن الذات الكاتب في رحلة مغامرة لا يُمكن ترجمة سعيها الخطابي إلا من خلال شكل مُتغير ومتعدد الأصوات، مُنقوش في آنٍ واحد “بين السيرة الذاتية والشهادة والسرد الفكري”. وباستحضار حديث الذات الذي يسلك مسار السرد، يُدرك القارئ أن تكوين هذا “التاريخ” يمر عبر عملية توافق بين علامات متعارضة في الأصل، بقدر ما يتعلق الأمر بتجانس الأصوات المُعرفة كآخر، كلٌ في علاقته بالآخر.
هذه اللعبة في التباعد وحركة التشتت الزمني التي تُخضع الذكريات لجدل الواقع والخيال، تدفع الكاتب للبحث عن ذاته من خلال وجوه الآخر الخاضعة للغة، المتسامية أحيانًا، والمُشَيطنة أحيانًا أخرى، بفعل العلاقة التي تُكونها هذه “الأنا” مع الأسرار أو الأوهام التي تُصاحب كل ذكرى. هنا يتدخل الآخر الذي يُعرف الوجود، لأنه بينه وبينه، ينزلق الكاتب نحو ماضٍ يتشاركه مع الآخرين. آخر مُتمرد. لا ينكر مستويات أخرى من الواقع لم يستطع بلوغها يومًا ما. يقول “لِمَ لا أكشف عما سيأتي؟ أميل إلى أن أنسب لنفسي ثقةً ظرفية، بحذرٍ مُتقطع، هذا صحيح”.
تُبرز هذه الشخصية المُتمردة، وهي شخصيةٌ أخرى، رغبة الكائن في التحرر من ذاتٍ يعتبرها لم تتحقق بعدُ بالنسبة لآخرٍ مُختبئ، إن هذا البحث عن الذات ينبع في الواقع من البحث عن اللغة، “هوية سردية” تُقرأ باعتبارها الآخر و”بالأحرى من خلال الرغبة في ماهو خارجي”.
لذلك يستهل الخطيبي فصول الكتاب بالحديث عن ارتباطه القوي بالمغرب، بلده الأصلي، الذي يحمل هويته وتاريخه، ليتحدث عن ولادته، التي تمت في بداية الحرب العالمية الثانية، وعن بعض أعلام الفكر، الذين أثروا في بداياته الأولى مع القراءة، على رأسهم: ابن خلدون، وكارل ماركس، وميشيل سير، وماكس فييبر. وفي ما يتعلق بمساره الأدبي، سرد الكاتب أسماء بعض الرموز، الذين تأثر بهم، أمثال: الشاعر الفرنسي شارل بودلير، ووالتر بنيامين…
يقول: “أعيش وأشتغل في المغرب. هذا البلد يمتلك قوة حية. أنا مدين له بولادتي، وباسمي، وبهويتي الأولى. كيف لا يمكن أن أحبه بعطف. عطف بناء ويَقِظ. البلد ليس مكان الولادة فحسب، بل اختيار شخصي يقوي الإحساس بالانتماء”. وعن مساره الدراسي، تحدث الكاتب عن اختياره شعبة علم الاجتماع في جامعة السوربون، ذاكراً أسماء بعض أساتذته من بينهم روجيه باستيه.
معنى أن تكون مثقفا
من خلال تعزيز ثنائية لغوية لم تعد تُعبر عن نفسها من خلال التمزيق، بل من خلال انفتاح الذات على غيريتها. كان عبد الكبير الخطيبي أول من اكتشف في نفسه الديناميكية الإبداعية للثنائية اللغوية، لدرجة أنه جعلها موضوعًا لعمله. رافضًا الثنائية الفرنسية العربية بانقساماتها وإحباطاتها، فسعى أولًا إلى تفكيك التعارض بين الثقافتين من خلال ممارسة “الفكر الآخر” و”النقد المزدوج” اللذين يفرضان مفهومًا جذريًا للهوية، لم يعد يُنظر إليه كمعطى ثابت من الماضي، بل كتعبير عن آثار في طور التكوين. عند نقلها إلى مستوى لغة الكتابة، فإن رفض الثنائية كأسلوب للتعريف من خلال التعارض الثنائي يؤدي إلى فكرة أساسية في جماليات الخطيبي: فكرة “اللغة الثنائية”. إنها ليست مزيجًا من أسلوبين، بل لغة فاصلة، حيث تسكن اللغة العربية الفرنسية بطريقة مخطوطة تمامًا كما تعمل الفرنسية على العربية، مع هذا الجزء غير القابل للترجمة الذي يحدد أماكن حفر الآخر المزدوج الذي يتم بناء الموضوع عليه.
تحدث الخطيبي، أيضاً، عن مساره مثقفاً: “بصفتي مثقفاً، أحاول إنجاز مهمتي؛ بمعنى تحويل تجربة إلى اختبار أولي. ما هي في نظركم؟ تجربتي علمتني التمرين الشاق للحرية وقيودها. الابتعاد عن المعتقدات الحالية هو الخطوة الأولى نحو هذه الحرية الناقصة. علينا الذهاب إلى أبعد، والمجازفة بحقيقة خطيرة، حيث يتم تشكيل الأبجدية تدريجياً، أو، بالأحرى، لغة تسمح ببسط مكانة متحركة بين ما هو شخصي وجماعي، هذا ما يجعل تجربتنا وذوقنا للتغيير والبناء المستدام متفردين ومتعددين، من حين إلى حين.
نعم، التضحية من أجل الحق في التفكير، بما في ذلك وقت الشدة، والحق في الرفض، وفي المقاومة، في بناء استقلال ذاتي، في النقد، في الاختلاف، في الاقتراح، في التعديل، في القبول بتوجيهك بوساطة أفكار، أو صور لا تزال بشعة، وتبحث عن دعم وأداة للتعبير داخل مغامرة العقل وحيويته”.
مساهمات الخطيبي عامة، ورغم تنوعها وحرص بعض النقاد والقراءة المغاربة والفرنسيين على تصنيفها، فإنها تتسم بوحدة فكرية عميقة، حيث الكف عن تصنيف كل من يكتب بالفرنسية على أنه “مستغرب”، فقد سمح الأدب الفرانكوفوني، على مدى عقود، بتطور حركة نظرة المُهيمن على الذات، سواءً كانت مُستعمَرة أم ما بعد الاستعمار. وقد سمح هذا الموقف من الآخر للخطيبي بالتفكير في نظرة الآخر إلى الذات، التي تُترجم صورةً، إن لم تكن خيالاً، فعلى الأقل تمثيلاً أيديولوجياً وثقافياً للهوية. ومن هنا جاء “فكر الخارج” كتمرد على أشكال الاستيعاب، وخاصةً التمرد على أشكال الاندماج الثقافي التي يسعى الخطيبي إلى زعزعتها للذات وللآخر. وهكذا، يجد الكاتب والمثقف الفرانكوفوني نفسه في فضاء من اضطرابات الهوية، بفعل التشويه الذي تُسببه نظرة الآخر ووضعية هذه النظرة، وكذلك جهود نقد وتفكيك فكر المغايرة، سعياً إلى نزع الاغتراب عن الذات.
الأنا والآخر.. نحو علاقة ثقافية مختلفة
في الواقع، يبدو أن فكر المُغايرة يفتح فضاء للآخر، وهو انفتاح ينبغي النظر إليه على أنه دعوة لاكتشاف الروابط الممكنة بين الثقافات بعيدا عن أشكال الرفض أو التذويب السائدة، إذ كلا الشكلين بلا أفق.
منذ ذلك الحين، يصبح البحث عن الآخر دافعًا لتوسيع آفاق المعرفة التي يمكن أن تقود مساراتها نحو العالمية، وبالتالي نحو الإنسانية. هذه العلاقة مع الآخر، التي تُختبر كحركة للخروج من الانغلاق، هي دافع دائم ومستمر. ومن هنا تأتي الأحكام المسبقة وأخطاء الحكم لدى البعض على الآخرين. لهذا السبب نتحدث عن الخيال. إن كتابات خطيبي عن الآخر، هي محاولة “لتحرير” “لغة الآخر” عبر الأدب الذي يُختبر كفعل جمالي يبدو أنه يدفع عن نفسه قمع التعددية للوجود.
باعتبار (الكاتب وظله) آخر مؤلف للكاتب عبد الكبير الخطيبي، فهو يمثل، حسب نقاد مختصين، ومنهم الكاتب والمترجم المغربي مراد الخطيبي، امتداداً نوعياً ومهماً لمشروعه الفكري والأدبي. أهمية الكتاب تتجلى، أيضاً، في كونه عبارة عن سيرة ذاتية وثقافية تمت صياغتها بطريقة فريدة من نوعها لكاتب معروف بقلة حواراته. ومن ثم، هذا المُنْجَز رصد عدة محطات في حياة الكاتب ابتداءً من الولادة، مروراً بمتابعة دراسته العليا في فرنسا، ورجوعه إلى المغرب، وبعدها أفاض الكاتب في الحديث عن العديد من الأحداث المهمة التي مر بها، والتي ظل بعضها غامضاً، أو مسكوتاً عنه، من قبيل إغلاق معهد السوسيولوجيا سنة (1970م). كما ركز الكتاب على العديد من المسارات الفكرية والثقافية، التي مر بها الخطيبي. ولا بد، في الأخير، من تأكيد تميز الكتاب بفرادة اللغة المستعملة فيه، كما في سائر مؤلفات الخطيبي، حيث تتسم بسحرها، وجاذبيتها، وعمقها، وجمالها.





