
بقلم: خالص جلبي
في الطب نعرف مرض المصاب بعينة دم بسيطة، بل لا يتطلب الكشف عن السكر أكثر من وخزة إبرة.. لذا سوف نأخذ عينتين من التاريخ، عن لعن ابن رشد حيا وميتا..
في عام 1194م كان ابن رشد في طريقه إلى الصلاة في مسجد قرطبة، حين هيّج الفقهاء الرعاع والدهماء عليه، فطردوه من المسجد هو وابنه! ويقول عن ذلك إنها كانت من أشد ما وقع له في حياته.
لم يكتف الفقهاء بطرده من المحراب، بل أصدروا قرار اللعنة بحقه، كما ذكرها صاحب كتاب «الذيل والتكملة»، ابن عبد الملك، وهذا طرف منها: «وقد كان في سالف الدهر قوم خاضوا في بحور الأوهام؛ فخلدوا في العالم صحفا، ما لها من خلاق، مسودة المعاني والأوراق. يوهمون أن العقل ميزانها، والحق برهانها. ونشأ منهم شياطين يخادعون الله والذين آمنوا؛ فكانوا أضر عليها من أهل الكتاب، وهؤلاء قصارى همهم الغمومة والتخييل، وبث عقاربهم في الآفاق. فاحذروا – وفقكم الله – هذه الشرذمة، حذركم من السموم السارية في الأبدان. ومن عُثر له على كتاب من كتبهم، فجزاؤه النار التي بها يعذب أربابه، وإليها يكون مآل مؤلفه وقارئه. والله تعالى يطهر من دنس الملحدين أصقاعكم، ويكتب في صحف الأبرار تضافركم على الحق واجتماعكم. إنه منعم كريم».
هذا ما كان في القرن الثالث عشر للميلاد، ولكننا ونحن نكتب هذه الأسطر تطالعنا كتابات تذكرنا باللعنات السابقة على رأس ابن رشد، قلعة العقلانية.
في حوارات مع كاتب إسلامي (كذا) يسأله أحدهم عن ابن رشد، الفقيه الفيلسوف؟ الجواب ابن رشد لم يبدع لا في الفلسفة ولا في الفقه (وهو الفقيه الفيلسوف). يقول الكاتب المغربي طه عبد الرحمن إن ابن رشد (كتاب «حوارات»، ص 83 ـ 101)، بعد أن يحرض على أن لا نكون قط رشديين «لماذا لست رشديا؟»، إلى هنا فهذا خياره، ولكنه يعقب وينصح المغاربة والقارئ العربي بقوله: «ولماذا ينبغي أن لا نكون رشديين؟».
نتابع في عشرة استرسالات ما يذكر بما كتبه، قبل ثمانية قرون، صاحب كتاب «الذيل والتكملة»: إن ابن رشد لم يبدع في الفلسفة عن طريق الفقه، ولا أبدع في الفقه عن طريق الفلسفة. وهكذا سقط ابن رشد في الحفرتين، فلا هو فيلسوف ولا هو فقيه مستبصر.
يسأله المحاور ولماذا إذن اشتهر ابن رشد، وما هو السر في ذلك؟ الجواب تكسير السلطة الدينية. وهنا يبدأ طه عبد الرحمن في إخراج ما في جعبته عن ابن رشد، فالعرب مقلدون وهي تحمل إدانة شديدة لكل من تأثر بفكر ابن رشد عربا وعجما.
نتابع وما هو الهدف البعيد إذن؟ هنا يقوم (ط .ع) بتفكيك خطير عن العلمانية، فابن رشد هو خلف بث العلمانية، وحين يبدأ في فك كلمة العلمانية من أصلها اللاتيني (اللاييك)، يقول إن أفضل تعريف لها هو الدهرانية. إذن ابن رشد أبو الدهرانية؟ هنا تذكرت الآية القرآنية من سورة «الجاثية» (24): «وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر».
وحول المنهجية يزحف بدليلين، أنها المبادئ المادية ضد اللاهوت، وتكافؤ الحقيقة الدينية والعلمية، وسوف نرى لاحقا عند صاحبنا أن نتاج الحضارة الغربية من الحريات العامة والديموقراطية وحقوق الإنسان والمرأة والطفل والمجتمع المدني أنها إفرازات حضارة مادية، وهو ما ذكرني بسيد قطب في كتابه «معالم في الطريق»، الذي اعتبر أن ليس من حضارة إلا بوجود الإسلام، وحين يوجد الإسلام هناك حضارة وإلا فلا. طبعا لم نعرف أي إسلام هنا؟ بن لادن؟ صوفية البودشيشية؟ الإخوان المسلمون؟ حزب التحرير؟ طالبان؟ ليخلص صاحبنا إلى ابن رشد، الفيلسوف ذو الحقيقتين، أنها انتهت إلى ظاهرة التحلل من الدين، ولذا فابن رشد هو إمام العقلانيين والعلمانيين والحداثيين. وإرادة الانتساب إلى ابن رشد، هي إرادة الانتساب إلى العلمانية (لنتذكر مصطلح الدهرانية) في أطوارها الثلاثة: اللاتينية والأنوار والحداثية. وحين يسأل عن معنى الاحتفال بذكرى الرجل؟ يؤكد أنها أسطورة مضللة، وأنها فتنة كبرى وأن ابن رشد لا يزيد على مقلد، فلا إبداع عند الرجل. وحين يتحدث عن فلسفة ابن رشد يقول إن الرجل ليس عنده فلسفة إسلامية، ثم يمضي في حذلقة لغوية ليضع ثلاثة مصطلحات فاصولية ومفتوحة ومتداخلة مع المعارف الإسلامية، ليقول إن لا وجود لها عند ابن رشد، فلا هي فلسفة فاصولية ولا مفصولة ولا علاقة لها البتة بالفكر الإسلامي. ويقول ولأن فكر ابن رشد غير إسلامي ولا علاقة له بالفكر الإسلامي، فهو لا يزيد على مقلد، لذا اتبعه اليهود والنصارى. فهي فلسفة بعيدة عن الفهم الإسلامي قريبة من الفكر الغربي، وحين يأتي في موضوع التأويل الفلسفي للنصوص الشرعية، يعترض صاحبنا فيقول إن آية «فاعتبروا يا أولي الأبصار» لا تفيد القياس، بل العبرة. يعني أن أحدنا إذا رأى حدثا فيجب تركيز العين على البؤرة، وعدم ربطها بأي شيء يشبهها. وعند آية مطلع سورة «آل عمران»، التي تتحدث عن الآيات المحكمات والمتشابهات، فهو يقذف ابن رشد إلى خانة من في قلوبهم زيغ. ليصل صاحبنا إلى أن الفتنة الكبرى التي وصل إليها ابن رشد كلها ناتجة من التقليد، فلا يملك أي إبداع.
طبعا لنصل إلى أن الفكر الإسلامي النقي والإبداع المحض، سوف يتدفق من ريشته الصوفية. وأخيرا، نصل إلى الحفرة التي لا ندري كيف سيخرج منها، حين يتحدث عن العقل فيقول: هو ليس واحدا. وتمنينا أن نتعرف على العقل عنده، والحقيقة الحقيقية النهائية في يمناه. وهكذا تم لعن ابن رشد حيا وميتا. ولا غرابة من الانهيار العقلي في العالم الإسلامي على يد أناس درسوا في الغرب، فلم يستفيدوا لا من الغرب ولا من التراث؛ فالعقل في إجازة مفتوحة إلى أجل غير مسمى.
نافذة:
ابن رشد لم يبدع في الفلسفة عن طريق الفقه ولا أبدع في الفقه عن طريق الفلسفة وهكذا سقط ابن رشد في الحفرتين فلا هو فيلسوف ولا هو فقيه مستبصر




