شوف تشوف

الرأي

استخدام سلاح المرتزقة

سامح راشد
تتبادل عدة دول اتهامات باستخدام مرتزقة للقتال في النزاعات المسلحة، منها سوريا وليبيا وأخيرا في ناغورنو كاراباخ. ومرتزقة الحروب ليسوا إلا نسخة جماعية متقدمة من القاتل المأجور، ولكن على نطاق أوسع وبشكل أكثر تنظيما، وقسوة بالطبع، فمهنة القاتل المأجور قديمة ومستمرة، لكنها تتم خارج سلطة الدولة في معظم الأحيان، وبشكل فردي، أو على الأكثر كعصابات خارجة عن القانون.
كان أول ظهور موثق لمرتزقة الحروب في مصر القديمة قبل 4500 عام، عندما وجد المصريون القدماء مجموعة من الآسيويين في أراضي الشام يقومون بأي أعمال تطلب منهم لاكتساب الرزق، خصوصا المتصلة بالقتل والسرقة. وكان المصريون القدماء يسمون أولئك المرتزقة «هابيرو» وتعني «السارقين» أو «النهابين» باللغة الأكادية. غير أن ظهور التشكيلات المنظمة للمرتزقة، أو المجموعات القتالية الشبيهة بالجيوش النظامية، كان في عهد الرومان، إذ قاموا بتوظيف أعداد كبيرة من أولئك المرتزقة للقتال تحت راية الرومان، وبالزي الرسمي للجيش الروماني.
وخلال عهود الاستعمار القديم، كان يتم تسخير العبيد والأسرى واللاجئين للقتال، مقابل قوت يومهم وإبقائهم على قيد الحياة. ومع انحسار الصورة التقليدية للاستعمار العسكري المباشر، عادت إلى «المهنة» قيمتها باحتياج الدول إلى المرتزقة لأداء المهام القتالية بالنيابة، فصار المرتزقة يحصلون على أجور عالية وتسليح متقدم، بل ورعاية وحماية من الدول التي تجندهم. بل أصبح المرتزقة حاليا يعملون تحت أغطية قانونية، من وراء واجهات مؤسسية مشروعة، مثل شركات الحراسة والأمن. حتى أن بعض تلك الشركات صارت أذرعا عسكرية للدول، وتستخدمها الحكومات أداة فعالة في سياساتها الخارجية، من دون مسؤوليات ولا مساءلة قانونية. والأمثلة على تلك النماذج كثيرة في العالم المعاصر، من «بلاك ووتر» الأمريكية إلى «فاغنر» الروسية. بل صارت بعض تلك الشركات تعمل لخدمة أطراف أخرى غير دولها، ما معناه توسيع نشاط أرباح تلك الشركات وزيادتها، ودعم نفوذ حكومات دولها وتأثيره.
من المثير للدهشة أن دولا تتهم غيرها بتجنيد مرتزقة، وإرسالهم إلى القتال في مناطق نزاع مسلح، بينما كانت تلك الدول نفسها التي تنبري لمهاجمة عمل المرتزقة تقوم بالفعل ذاته، بل ولا تزال تباشره. والأدهى أنها تفعل ذلك في ساحة الحرب نفسها وعلى الأرض نفسها. كما لو أن تجنيد المرتزقة حلال لها، حرام على غيرها. وهو نفسه المنطق المعكوس الذي تتهم به تلك الدول غيرها بتأجيج الصراعات وإشعال الفتنة هنا أو هناك، بينما هي تمول مؤامرات وتسلحها وتدبرها لإسقاط حكومات وإفشال اقتصادات وتدمير مجتمعات، لا تسير وفق هواها أو تطبق نموذجا في الحكم يُخشى انتقاله وانتشاره.
لا يمكن لأي دولة، مهما بلغ نفوذها، أن تضطلع بمفردها بكل مراحل تجنيد المرتزقة وجوانبه. من اختيارهم إلى الاتفاق معهم ونقلهم إلى معسكرات إيواء وتدريب، ثم تنظيم عمليات ترحيلهم إلى ساحات القتال، فضلا عن التسليح وتأمين الإمدادات والمتطلبات اللوجستية. كما أن انتقال هؤلاء المرتزقة عبر الحدود يجرى، بالضرورة، تحت سمع دول كثيرة وبصرها. المسألة إذاً متشابكة، وتتداخل فيها مواقف وحسابات ومصالح دول كثيرة، فلا دولة واحدة أو حتى عدة دول فقط هي الشريرة في العالم، وإلا لتحرك المجتمع الدولي، ولاستجابت القوى الكبرى لتقارير ونداءات أممية متتالية، ترصد وتوثق بأدق التفاصيل إرسال أسلحة ومرتزقة، ودعمهم وتمويلهم في عدة مناطق مشتعلة بالنزاعات المسلحة في العالم.
قد تختلف الأهداف، لكن الأسلوب واحد بين الفرقاء والخصوم، خصوصا في منطقتنا المنكوبة «الشرق الأوسط»، حيث يشهر طرفا أو أطراف كل صراع السلاح نفسه، ويستقوون بحلفاء إقليميين أو خارجيين. يتهم كل منهم الآخر باستخدام أسلحة غير مشروعة، وتدبير المؤامرات وتأجيج الصراع، فكلهم يزعمون رفض التدخلات الخارجية، وهم أنفسهم الذين يباشرون التدخل الخارجي بعينه، وفي أبشع صوره وأكثرها وقاحة. فمن هم المرتزقة إذا؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى