الرأي

الأسوار والكتب

عبد السلام بنعبد العالي

في مقال شائق تحت عنوان: «السور والكتب»، يحاول بورخيس وصف المشاعر المتناقضة التي خامرته، حينما اطلع على الخبر الذي يقول: «إن الإمبراطور الصيني الذي أمر ببناء سور الصين المديد – حتى كأنه لا ينتهي- هو الإمبراطور الأول شي هونغ تاي»، وهو الإمبراطور عينه الذي «أمر بإحراق جميع الكتب التي كتبت قبل عصره». الرجل الذي سور المكان هو نفسه الذي سور الزمان. رغم أن العملين يبدوان متعارضين، الأول بناء والثاني هدام، فــ«لا يبدو أن هناك تناقضا عصيا على الفهم بينهما» كما يكتب بورخيس. إنهما يؤديان الوظيفة نفسها: حماية الإمبراطورية. البناء ضد هجوم البرابرة، والإحراق ضد المناوئين الذين يروجون الكتب التي تمجد السابقين من الأباطرة.
كان عمر التاريخ الصيني وقتها أزيد من ثلاثة آلاف سنة. إحراق الكتب إذاً هو محو لهذا الماضي العريق، بوجهيه: الماضي الفعلي والماضي الأسطوري. إنه إرجاع العد إلى نقطة الصفر، وتدشين لبداية جديدة للتاريخ الصيني، فلا عجب أن يأمر الإمبراطور بأن يُطلق على من سيخلفونه الإمبراطور الثاني فالثالث فالرابع وهكذا.. فهو أول، هو الأول.
من المؤرخين من لم يروا في ما قام به شي هونغ تاي أمرا غريبا، فبناء الحصون ودفن الماضي أمر معتاد، الجديد هنا هو ضخامة الفعلين. فليس المثير، كما يبدو، هو الغاية من العمليتين وإنما أسلوب نهجهما. لا يقتنع بورخيس بهذا التحليل، لذا يكتب: «ليس بالأمر البسيط أن يُطلب من أكثر الأعراق اعتزازا بتقاليدها نبذ ماضيها، سواء أكان ذلك الماضي وهما أم حقيقة».
مؤرخون آخرون يعتمدون تفسيرا سيكولوجيا فيردون المسألة إلى كون الإمبراطور كان يهاب الموت: «منَع الإمبراطور، بحسب هؤلاء المؤرخين، ذكر الموت، وبحث عن إكسير الحياة، اعتزل في قصر رمزي عدد غرفه بعدد أيام السنة. كل هذه الحقائق تشير إلى أن السور الممتد في المكان والمحارق التي طالت ثمرات الزمان، هما حصنان سحريان كان الغرض منهما صد الموت».
ينبهنا بورخيس إلى إمكانية أخرى، وهي أن العملين قد يكونان تما ليس في وقت واحد، وأن أحدهما تقدم الآخر: «ولكن، بإمكاننا أيضا افتراض أن بناء السور وحرق الكتب لم يكونا متزامنين. بهذا، واعتمادا على الترتيب الذي نراه مناسبا، ستكون لدينا إما صورة ملك بدأ عهده بالتدمير، ثم كرس نفسه للبناء والديمومة، أو، على العكس، صورة ملك فقد صوابه، فدمر بنفسه ما كان يذود عنه. والترتيبان كلاهما لا يخلوان من حكمة ورصانة، ولكنهما، بحدود معرفتي، يفتقدان إلى الأسس التاريخية».
رغم ما يقوله الكاتب الأرجنتيني في مقدمة المقال من إنه لا يرى «تناقضا عصيا على الفهم بين الفعلين»، فإن كل التأويلات التي يقدمها تنطلق من افتراض أولي وهو التناقض بين إقامة السور وإحراق الكتب، على أساس أن العمل الأول بِنَاء وأن الثاني هدم. فهل صحيح أن بناء الأسوار عمل بناء؟ وهل هناك تناقض فعلي بين بناء الأسوار وإحراق كتب الماضي؟ فمن الذي يستطيع أن يقدم على إحراق الكتب؟ أليس ذاك الذي أقيمت في دماغه أسوار فاصلة، تحول بينه وبين الانفتاح وطرح الأسئلة، وفتح أبواب الشك والمغامرة في المجهول؟
لو أننا قسنا الأمور على ما يروج في عصرنا، فربما اتضحت لنا العلاقة الوطيدة بين إقامة الأسوار وإحراق الكتب. صحيح أن العمليتين لم تعودا تتخذان اليوم الشكل نفسه. فأول ما نلحظه هو أن الأسوار ذاتها لم تعد على ما كانت عليه في ما مضى. ذلك أن بعض الدول تلجأ في عصرنا إلى طرق أكثر «ذكاء»، فتسعى إلى إقامة جدران من «طينة» أخرى، جدران أقل «صلابة» وأخف حضورا، وأقل وضوحا، لكنها ربما أكثر فعالية. هذه الجدران ليست تلك التي تقام بالحديد والإسمنت، والتي تتبدى عاتية عالية نحو السماء، وإنما تلك التي تتخفى وراء قوانين تشريعية، أو مؤسسات إدارية، أو وزارات تحمل أسماء مراوغة، كوزارة الهجرة، أو وزارة الهوية الوطنية، أو حتى وزارة «الاندماج» والتكافل. بل إن التسوير وروح الانغلاق يتخذان اليوم شكلا مهذبا فيقطنان الأدمغة ويسكنان العقول، ويكتفيان بترسيخ إيديولوجيات وثوقية تجمد الفكر وتخشب اللغة وتسد الآفاق، وهذه بالضبط هي الروح ذاتها التي تكمن وراء إحراق الكتب، وهنا أيضا ليس ضروريا أن يكون الإحراق بإيقاد النيران ولا بإتلاف الكتب. مجتمع الفرجة في غنى عن إشعال النيران كي يشغل بالنا ووقتنا بـ«ثقافة اللهو»، بالمعنى الباسكالي للكلمة، فيلهينا عن الثقافة.. وعن الكتب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى