شوف تشوف

الرأي

التعريف بجودت سعيد ومدرسة اللاعنف (4- 12)

بقلم: خالص جلبي
جودت سعيد يكبرني بـ14 سنة، ويوم أصبحت صهره كان عمري 24 سنة وعمره 38 سنة، في أتم نضجه، وكان صبورا علي ولم يكن منفرا. ولو كان فظا غليظ القلب ما استفدت منه شيئا. ومن أجمل لحظات التبادل الفكري بيننا، عندما شرح لي فكرة من كتاب «وجهة العالم الإسلامي» لمالك بن نبي، وهي فكرة انقلابية حقا عن هزيمة الجيش العثماني في معركة أنقرة أمام تيمورلنك، الذي حمى الحضارة الغربية من الهجوم التركي، وأعاق زحف بيازيد الثاني إلى أوروبا. وكانت هزيمة العثمانيين ساحقة في معركة أنقرة عام 1402م. وهناك كتاب من سلسلة «الألف كتاب الأولى» التي طبعت في مصر، ومنها كتاب يشير إلى أهم سبع معارك حولت مجرى التاريخ، ويعتبر أن هذه واحدة منها «سبع معارك» تأليف جون داهموس. ويذكرها مالك بن نبي تحت مغزى عمى التاريخ، أن التاريخ ليس أعمى، بل تظهر نتائجه ولو بعد آلاف السنين، ومنها التي ذكرها المؤرخ توينبي عن تدمير حضارات الإنكا والاستجابة المتأخرة. وسمعنا بمجيء أليخاندرو توليدو إلى حكم البيرو، كأول هندي. كما أن إسبانيا لم تبق تحكم، بل انسحبت من أمريكا اللاتينية ورجعت قوة هامشية في القارة الأوروبية، وأصيبت بلعنة الذهب المنهوب. ولكن أكثر ما يحزن المرء تدمير حضارات أمريكا الجنوبية، فهم نسخ باهتة من البرتغال وإسبانيا، ولا أحد يعلم ماذا يجلب المستقبل من ردات فعل حضارية، ولو عبر القرون.
ومن أبرز ما يلفت النظر في شخصية المفكر جودت سعيد أنه عاشق للعلم، خبير بالكلمات والأفكار، ولقد عكف على تفكيك وفهم فكر محمد أركون قرابة ثماني سنوات. وفي مونتريال بكندا رأيته وقد عكف على كتاب «العقلانية العملية» لبوردو، وهو كتاب اطلعت عليه ولكنه سيئ الترجمة وصعب الوضع، إلا أن جودت يعجبه هذا النمط من الكتب تحديدا.
والمشهور عن الكتاب الفرنسيين أنهم يتقصدون الضبابية والتصعيب في كتاباتهم، حتى ينالوا الشهرة أكثر. ولكن هذا لا يجعلني أستخف بعقلي. وما زلنا نقرأ للكتاب الفرنسيين أنفسهم، ولم يقرأ أحد باسكال من كتابه «الخواطر» إلا وشعر بالكهرباء تتمشى تحت الجلد من القشعريرة، وهو ما أحسست به وأنا أقرأ له فكرته في النهايتين.
وعندما نصحني جودت بقراءة أركون، وكنت قد اطلعت على بعض مما كتب وتراوح بين ترجمات سيئة وأخرى لا تخلو من الفائدة، ولكن لا تقارن بالأدب الكلاسيكي مثل باسكال الذي ذكرته أو سبينوزا، فطلبت منه طالما أنه عكف كل هذا الوقت على فهم الرجل أن يضع كتابا في 150 صفحة، يختصر فيها أفكار الرجل للشباب، ولكنه لم يفعل حتى الآن، ولعله يرى أن طريق العلم ليس سريعا أو قصيرا. ولله في خلقه شؤون.
وجودت قرأ كتب مالك بن نبي كلها، كما أنه قرأ بعضها ربما أكثر من عشرين مرة، مثل كتاب «شروط النهضة» و«فكرة الإفريقية الآسيوية»، ودرسه للآخرين عشرات المرات. وفي يوم عندما كان مالك بن نبي في دمشق عام 1971، ورأى جودت وهو يعتمر العقال على رأسه، تعجب من لباس جودت فقال له: «إنني على ما ذكرت في كتابك الفلاني عن المعمم بالطربوش، أن الحضارة دخلت من رجليه ولكن لم تصل رأسه بعد». وجودت في هذه القضايا مختلف عنه في الفكر، فبقدر اهتمامه بالعلم بقدر عدم إلمامه بالتقنيات الحديثة أو الاهتمام بها. وهو في قراءته للكتب على طريقة أن الكتاب الجيد يقرأ أكثر من مرة، وهو خير من قراءة الكثير من الكتب التافهة السطحية. والرجل كنز ولكنه أنشط في النطق والتعبير والخطابة منه في الكتابة. وسبحان مقسم القدرات، ولذا فيجب حفظ صوته وما نطق به من المحاضرات للأجيال القادمة.
ومن خبرتي في الناس هناك المبدع في الكتابة، ولكنه إن نطق لم يكن ذلك المبدع، ولكن قلمه إن سال كان كموج البحر والعكس بالعكس. ويجب الحذر من أصحاب الحناجر وهم كثيرون، أما الوعاظ الجدد من المشعوذين فهم أكثر من جنادب الليل.
ونمو الأفكار عنده يرويه هو شخصيا، أن بعضهم يسأله عن الأفكار، فيقول كبروا كما يكبر الأولاد، وهي فكرة يعيدها تحت قوله تعالى: (والراسخون في العلم). فهناك علم ورسوخ في العلم وبينهما درجات. والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب.
مع هذا فجودت يصدم المتكلمين أحيانا ببعض الأفكار، التي يقولون: «لم نسمع بها في آبائنا الأولين». مثل فكرة قتل المرتد أنها تخالف أصلا عظيما من القرآن (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)، أو فكرة «اللاعنف».
وهناك فكرة يجب التنويه بها، وهي أن السامع الذي يتابعه قد يصاب بالملل ويقول إنها أفكار سمعناها منه ولا جديد. ولكن قاعدة «كبروا» تعني أن الأفكار مثل النبتات تكبر مع الزمن. وهو كلام يكرره على مسامع البعض، فلا يفهموا منه سوى أن أولاده كبروا وليس الأفكار.
وقصة تكرار الأفكار تؤكد مغزى التكرار في القرآن، الذي يتناول القصص دوما من زاوية جديدة، أو بتعبير سيد قطب أن القصة تصب كل مرة بما يتناسق مع جو السورة. والرجل ينمو وفكرته في قضية ما تزداد رسوخا وتمكنا، مثل الشجرة التي تضرب بجذورها في التربة وتنهض فوق الأرض، فتثمر من كل فاكهة زوجان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى