الرأي

الزر 4

– جميلة أنت وجذابة.. أكثر من أي مرة رأيتك فيها!
هكذا لم يستطع منتصر أن يتجاهل ما يشعر به حُيالَ دهاءِ امرأة أتقنتْ شيئاً يدعى الأنوثة، فتمكنت من نزع كل الأقنعة التي حرصَ على التخفي وراءها..
– جمال عيونَك.. شكرا.. ردَّت هبة بكثير من المكر والجرأة.. كيف لا وقد اطمأنت لحسن تدبيرها، بعد أن خانتها العبارة وخذلتها حواسُّها ووثوقها من نفسها قبل قليل، حتى كادت تصير لقمة سائغة في فمِ حظٍّ متعثرٍ أضحى يُطاردُها في الأيام الأخيرة. لم تمانعْ أن يمسك بيديها، لأن ما تشعر به هو أقوى من الرفض أو القبول، شيءٌ خارج نطاق الثنائيات الضدية، وخارج ما يجب وما لا يجب، وربما خارج عن كل السياقات والأنساق المتداولة..
جذبها إليه برقة فائقة مثلما يقطف تفاحة طازجة آيلة للسقوط، كانت رخوة ومِطواعة، كُلَّما رفَعَتْ ناظِرَيْها إلاَّ وشعرتْ بعطر أنفاسه يُذيب كلَّ حواسِّها إلى سائل خفيف، وكأنَّ الكونَ كلَّهُ قد تحول إلى قنينة يُسكبُ فيها ذاك السائلُ قطرةً قطرة، وهو يهمس في أذنها: «لا شك أنكِ تعشقين السفر والطيران مثلي.. سوف نسافر سوياًّ هاته الليلة فوق بساط حلمٍ لا ينتهي..» كان صوتُه شيئاً خرافياً بالنسبة إليها ما فتئ يَخرُّ له الجمعُ المؤنث الساكنُ فيها بزهوِه وخُيَلائهِ وكل أمجاده..
سحَبها نحو باب المصعد وهو يبحث عن الزر في الظلام، الذي أرخى سدولَه على حواسهما بلا هوادة، ثم همس مرة ثانية: «أنتِ هبة.. سمعت إحداهن تناديك ذات صيف، عندما كان الشفق يتلألأ فوق وجنتيك، ويداعب شفتيك، فيبكي السحرُ من ابتسامكِ.. قدركِ سيجعلكِ هبةً لي وحدي..».
ـ يا سلام.. ما كل هذا البيان؟! أشاحتْ بوجهها قليلاً عندما أرادت أن تمسك زمام الأمر، قبل حدوث المفاجآت السريعة.. لكن المفاجأة حدثت بالفعل، حيث فُتح بابُ العمارة من جديد، ليدخل الحاج نبيل وزوجته إيمان، أشعلا النور وتقدما في الممر نحو المصعد.. شعرتْ هبة باحتباس أنفاسها وكأنها تسقط من الطابق العلوي، حتى أنها عجزت عن تحية جارتها أو على الأقل أن تبتسم في وجه الزوجين لأجل اللباقة.. كانت تتمنى صِدقاً أن يُفتح خُرْمٌ تحت قدميها ويبتلعها.. لمْ يُبْدِ الزوجان أي اندهاش لما ألْفَيا عليه جاريهما، تفادياً لأيِّ حرج، إلا أن السيد منتصر سرعان ما لبس عباءته من جديد، حيث عاد رصينا ومتزنا، رافعاً أنفَهُ مردداً عبارات التحية والسلام، ثم ضغط على زر المصعد وهو يرحب باقتراح الحاج نبيل أن يصعد وإياه، ليتركا مجالا للسيدتين لتصعدا بمفردهما..
ـ لندع النساء يتحدثن براحتهن.. أليس كذلك؟
ـ طبعا بكل سرور.. ليلة سعيدة لالاَّ.. لمْ تَنْبُسْ هبة بكلمة واحدة، أضاعتْ لغتَها من جديد، وتوقف ذهنُها، فلمْ تَعِ كيف فَتحتْ باب منزلها، بل لمْ تتذكرْ بعد ذلك، كيف أغمضَتْ عينيها لأنها أمضت ليلةً تحاول الهروب من سؤال إلى سؤال، ومن واقع إلى توقعاتٍ لا حصر لها..
ما زالتْ تتساءلْ، لكنها ما عادتْ تتوقعُ أيَّ شيء، لأنها ما رَأَتْهُ قطُّ منذ ذلك الحين، بالنسبة إليها، رجل سكن الخيال، وطار فوق بساط الحلم، وترك دِفءَ المشاعر للهباءْ.. أمَّا هيَ فليستْ حالمةً إلى درجة السلبية، إنها تواظبُ على اقتناء شوكولاته بنكهة زهر البرتقال، لتتذوق نصفَها، وتسألَ النصفَ الثاني، عن نهاية قصةٍ لم تبتدئْ..
-انتهت-

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى