شوف تشوف

الرأيسياسية

الفلسفة السياسية لتشارلز الثالث

 

 

عاطف الغمري

أتيحت لي الفرصة للقاء الملك تشارلز الثالث، (وقت أن كان الأمير تشارلز ولي العهد)، في مناسبتين، أثناء عملي مديرا لمكتب «الأهرام» في بريطانيا في عام 1993، وعام 1995. إحداهما في قصره، هايغروف الريفي جنوب غرب لندن، والثانية مؤتمر دولي نظمه المعهد الملكي للشؤون الدولية، المعروف باسم «شاتهام هاوس». وكان تشارلز مشاركا مع 58 متحدثا من خبراء في مختلف التخصصات، من أوروبا والولايات المتحدة.

ولفت نظري ما طرحه تشارلز من فلسفة سياسية متميزة، ومحددة المعالم عن السياسة الخارجية. وهنا أستشهد بفقرة من حديثه أمام المؤتمر تلخص فلسفته تلك، حين قال: «إننا لو شوهنا سمعة القيم التي نعتز بها، وتجاهلنا المبادئ الإنسانية والتسامح، والعدالة، والاعتراف بما هو خطأ، وما هو صواب، فإننا بذلك نكون تخلينا عن أمور طالما كانت تمثل لنا جميعا القيم الفاضلة».

اللقاء الأول في قصر هايغروف دعا إليه عشرين شخصية كلهم من المسلمين المقيمين في بريطانيا بشكل مستمر، واعتبر أن لهم إسهامات ونشاطات ثقافية، واجتماعية، وإعلامية. وكانت المناسبة الاحتفال بدور مركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية الذي كان تأسس عام 1985، وكان تشارلز هو الراعي للمركز، والمهتم بتوسيع دائرة نشاطاته.

وفي قصره الريفي ذي الطبيعة الخلابة، والذي يعود إلى القرن الثامن عشر، حرص تشارلز على المرور على المدعوين فردا فردا، يجرى مع كل منهم نقاشا يطرح فيه أفكاره، ليس من باب كونه وليا للعهد، بل كرجل تعددت نشاطاته في بلده، بتركيز على الإنسان ليس في بلده فقط، بل في العالم أجمع.

في المرة الثانية عرض بالتفصيل فلسفته للسياسة الخارجية، من خلال رؤية بدت مغايرة عن السياسات الخارجية للغرب عامة.

وإنني أنقل هنا ما دار خاصة في إطار مواجهة فلسفية بينه وبين هنري كيسنجر، الذي كان مدعوا للمشاركة في المؤتمر.

في حديثه للمؤتمر، قدم تشارلز رؤيته للتراث التاريخي لبريطانيا والمنتشر في العالم، من حيث بداية ظهور مفهوم الأحزاب والديمقراطية، ثم عدّد المقومات التي تشكل شخصية بريطانيا كأمة، وفي مقدمتها تراث شكسبير المسرحي، الذي انتقلت إبداعاته، وما زالت، إلى أرجاء العالم.

ثم اقتحم بكلمته عمق إدارة السياسة الخارجية، وقال إنهم «في بريطانيا يتحدثون عن السياسة الخارجية باعتبارها مسألة خارجية، بينما نحن في حاجة إلى أجندة جديدة لقضايا السياسة الخارجية، وأعني بها مراعاة المشاكل العالمية التي لا تعرف حدودا تخص كل دولة على حدة، بل هي عابرة للحدود، مثل مشاكل البيئة، والمخدرات، والإرهاب، والتنمية الاقتصادية، وحاجتنا إلى حوارات حول التجارة الدولية. وإننا إذا تركنا هذه المشكلات على حالها، فسوف تترتب عليها تأثيرات كارثية علينا جميعا».

وكانت رؤية كيسنجر مختلفة كلية، فهي تضع السياسة الأمريكية في إطار المفاهيم الداخلية الأمريكية أولا، وقبل أي شيء. وإن كان انتماؤه للمدرسة الواقعية في سياسة أمريكا الخارجية، فقد مد أفق رؤيته للمستقبل، حين قال إن وجهة النظر الأمريكية في السياسة الخارجية هي في طور التشكيل، وإن المناقشات تدور في الداخل حول تطوير تلك النظرة. وبدا أنه في هذه الجزئية متأثر بنتائج صعود الصين، وتأثيرها في شكل النظام العالمي القادم.

هنا، وفي قراءة فلسفة الملك تشارلز عن السياسة الخارجية، بدا واضحا أنه يختلف عن سابقيه من ملوك بريطانيا، لكونه كان دائما موجودا في صميم حياة البريطانيين كشعب، ومهتما بالرعاية الاجتماعية للمحرومين، على حد تعبيره، ومهتما بالبيئة ودعمها من خلال جمعيات خيرية، وامتداد نشاطه إلى الأوضاع المعيشية في المدن والأحياء.

وكثيرا ما كان يقدم دعما معنويا لمنظمات ناشطة في العالم في مجالات الفنون والموسيقى والمسرح، كما اعتاد حضور الحفلات الموسيقية، وعروض الأوبرا، لتأكيد قيمة الفنون في ترقية الحس الإنساني.

وعرف عنه دعمه القوى لحماية المناخ، وهو ما أكده بقوة في مؤتمر المناخ في باريس عام 2015، وبعدها في قمة المناخ في غلاسكو، ثم في منتدى دافوس الاقتصادي عام 2020، في خطاب قوي قال فيه متسائلا: «هل نريد أن يكون حكم التاريخ علينا بأننا أناس لم يفعلوا شيئا لإنقاذ العالم وإبعاده عن الحافة، واستعادة توازنه؟ إن ذلك هو ما لا أريده، ولا أرضاه».

هذه ملامح من شخصية الملك تشارلز الثالث، تحمل مؤشرات عن اختلاف في نظرته وتقييمه لمختلف قضايا المواطن، اجتماعيا وسياسيا وحضاريا، من زاوية النظر إلى البعد الإنساني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى