شوف تشوف

الرأي

تأملات صينية

يونس جنوحي
لا يمكن لعائلات المغاربة الذين كانوا عالقين في الصين إلا أن يتنفسوا الصعداء وهم يتابعون الأوامر الملكية التي قضت بنقل المُقيمين المغاربة في الصين وانتشالهم من جحيم قلق الإصابة بمرض كورونا القاتل.
وقبل التدخل الملكي، ساد طبعا الصمت الحكومي، ولم نر مسؤولا حكوميا واحدا يمارس صلاحياته الدستورية. وتكرست، مرة أخرى، الصورة النمطية الكلاسيكية عن المسؤولين الحكوميين البعيدين تماما عن اهتمامات ومشاغل المواطنين والكوابيس التي تلاحقهم.
حتى أن الشكاوى التي يسجلها المغاربة سنويا ضد السفارات المغربية في الخارج، باتت أمرا عاديا لم يعد يثير استغراب أحد. ولولا نعمة الله المتمثلة في «اليوتيوب» لما وصلت شكاوى عدد من المواطنين بخصوص تأخر الخدمات في القنصليات الأجنبية. مع وجود استثناءات طبعا.
ولعل آخر الأخبار التي وصلت بهذا الخصوص، تتمثل في استعداد السفارة المغربية في الصين لبدء عملية الترحيل، وهو ما سجل ارتياحا كبيرا في صفوف العائلات.
قبل عام، رافقتُ مجموعة من الصينيين، وهم أساتذة وتلاميذ يتابعون دراستهم في الجامعة الأمريكية بالصين. وبعبارة أخرى، كانوا يمثلون زبدة المجتمع الصيني.
كان مدير المدرسة، الذي قضى أزيد من نصف حياته في الولايات المتحدة الأمريكية حيث قضى بها طفولته ولم يغادرها صوب الصين إلا عندما أنهى دراسته الجامعية وحصل على الدكتوراه، صينيا محافظا، ولم تفلح حياته بأمريكا في تغيير طباعه الصينية، وكان مفتخرا بكل ما هو صيني ومتخصصا في الثقافة الصينية الشعبية.
ورغم أن الطلبة الذين أحضرهم إلى المغرب كانوا أبناء رجال الأعمال الناجحين في الصين، إلا أنهم كانوا بالكاد يتحدثون إنجليزية ركيكة، ولم يكن المدير يعاتبهم على هذا الأمر، بل كان يحثهم على تعلم الصينية أكثر وإتقان الخط الصيني والثقافة الشعبية الصينية. وهو أمر يثير الحيرة مقارنة مع الكارثة التي نغرق فيها نحن المغاربة. إذ إن أول مدرسة خصوصية مغربية في أبسط حي مغربي، تُغرق أبناء المغاربة بالبرامج الفرنسية، ولا يطمئن الآباء إلا بعد أن يروا أبناءهم يتحدثون الفرنسية فقط، ويفتخرون بعدم قدرة أبنائهم على قراءة اللغة العربية.
وحتى لا نبتعد عن فيروس «كورونا» الذي جرنا اليوم إلى الحديث عن الصين، فإن الأيام التي قضيتها مع هؤلاء الصينيين جعلتني أخرج بخلاصة واحدة. إنهم مهووسون بالنظافة والتعقيم وارتداء الكمامات، رغم أنهم كانوا يقيمون في أنظف المناطق المغاربة وأكثرها ابتعادا عن التلوث. فقد شملت الجولة استكشافا للصحراء والمنطقة الشرقية، ثم وصولا إلى شفشاون ومنها إلى طنجة، وصولا إلى العاصمة الرباط. وطيلة الرحلة كان هاجس هؤلاء الصينيين هو ارتداء الكمامات.
كان هؤلاء الطلبة، بحكم حداثة سنهم، يجعلون أحد زملائهم مدعاة للسخرية. وذات مساء في بهو الفندق، جمعهم المدير جميعا لكي يقرعهم على سخريتهم من زميلهم الذي كان ينحدر من كوريا الجنوبية، ويقيم في الصين بسبب مشاريع والده التجارية التي فرضت عليه الانتقال مع أسرته إلى الصين. حاول المدير الرفع من معنويات الطالب الكوري، وشكره على مجهوده طيلة سنوات لتعلم الصينية رغم صعوبتها، وانتقل إلى تقريع الآخرين واتهمهم بالسطحية والسفافة، ووصفهم، دون أن يرفع أحد رأسه، بـ«الغوغاء» و«الجهلة»، بما أنهم يسخرون من إنسان مختلف عنهم لا يتقن لغتهم إتقانا تاما. علما أن هؤلاء جميعا كانوا يدرسون في المدرسة الأمريكية وكان ممكنا أن يتواصلوا في ما بينهم باللغة الإنجليزية وينتهي المشكل.. إلا أنهم جميعا كانوا يتحدثون الصينية فقط.
عندما انتشرت الأخبار المرعبة عن سيطرة فيروس «كورونا» القاتل في مدينة ووهان، بؤرة الفيروس، ووصوله الآن إلى بكين، تذكرت كلام مدير المدرسة الأمريكية عندما جلست معه ذات صباح رائق في مثل هذا الوقت تماما من السنة الماضية. كان يضع السكر في فنجان من الشاي الصيني، وقال لي بكثير من الحكمة: «هل تعرف..؟ لقد وصلنا إلى كل دول العالم تقريبا. لا يوجد شيء لا يُصنع في الصين. لكنني مع ذلك أرى أننا لم نُفلح بعد في صناعة الشفاء».
صحيح. الصين تصنع كل شيء. ويلاحقها العالم كله بتهم السرقة الفكرية للاختراعات وتقليد المنتجات وعدم احترام معايير السلامة. مِحن الشعوب لم تكن يوما فرصة للتشفي. كان الله في عون البشرية، فالحماقة والتعصب هما اللذان يقودان العالم نحو حتفه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى