
يونس جنوحي
في الوقت الذي هرب فيه مسؤولون محليون في مراكش ومُنتخبون إلى الأمام عند تعاملهم مع مشاكل ممارسي فن «لحْلْقة» في ساحة جامع الفنا بمراكش وتأثرهم بأزمة الإغلاق الطويلة التي شلت الحركة في الساحة التاريخية الشهيرة طيلة أشهر، لأول مرة ربما في التاريخ، كان السفير البريطاني في المغرب، «سايمون مارتن» قد قرر تكريم «لحلايقية» بطريقته الخاصة.
إذ إن السفير البريطاني الذي زار ساحة جامع الفنا التاريخية وحضر أنشطة مهرجان مراكش الدولي لفن الحكي، فاجأ الجميع عندما قرر أن يُنشط حلقة بنفسه، ويحكي للحاضرين الذين تجمعوا حوله في الهواء الطلق، عن علاقة أشهر رئيس وزراء في تاريخ بريطانيا بالمدينة الحمراء. ويتعلق الأمر هنا بشخصية «وينستون تشرشل» الذي يعتبر أحد كبار الشخصيات المؤثرة بشكل كبير في أحداث القرن الماضي.
إذ إن تشرشل زار مدينة مراكش وأغرم بها، وتردد عليها حيث رسم أشهر لوحاته الفنية التي بيعت بملايين الدولارات بعد وفاته.
هذا الرجل الذي كانت أنظار العالم كلها تتجه نحوه لكي تسمع منه موقف بلاده بخصوص الحرب العالمية الثانية ومواجهة النازية في ألمانيا، كان نجم الأربعينيات والخمسينيات بلا منازع. وكان يترك كل هذا خلفه لكي يأتي إلى مراكش وينزل في «المامونية» ويضع قبعة القش فوق رأسه لكي تقيه من شمس مراكش التي تتجاوز الأربعين درجة في الظل ويتجول بين دروب المدينة القديمة ويذهب عصرا لشرب الشاي مع الباشا الكلاوي، ثم يعود إلى الفندق بحثا عن مكان مناسب لرسم غروب شمس مراكش.
وفي غرفة الفندق كتب بعض رسائله التي بيعت بالملايين في مزادات لندن، حيث كان يرد فيها على الملكة إليزابيث أو الرئيس الأمريكي، وأحيانا كان يرد على رسائل من مشاهير السينما وأصدقائه السياسيين ويوقع الرسالة من مراكش.
سعادة السفير البريطاني في المغرب أعاد «تشرشل» إلى الحياة عندما سرد قصته، على طريقة الحكاواتيين المحترفين، وذكر الجيل الجديد من المراكشيين بسيرة رجل أقام بينهم قبل أن يولد آباؤهم.
معالي السفير ارتدى لباس ساحر، وتقمص الدور جيدا، وكان يلقي القصة على مسامع الناس باللغة الإنجليزية ويتولى شاب يسير خلفه مهمة الترجمة للحضور. إذ إن فن الحلقة يقوم أساسا على التجاوب بين مركز الحلقة والمتفرجين. موهبة السفير لم تتوقف عند هذا الحد، بل انصهر في الدور وأصبح مثل الحلايقية الذين انبهروا كيف أن سفيرا أجنبيا ينزل إلى الأرض ويجمع الناس حوله ليحكي لهم حكايات مراكش وتشرشل.
الفن الشفهي الذي تداوله الناس فوق أرض جامع الفنا لقرون، يفوق محتويات كبريات مكتبات العالم. كانت الحلقة في السابق مجالا للتداول في أخبار العالم قبل زمن التلفزيون والراديو. وكانت أيضا جامعة يناقش فيها «لحلايقي» آراءه في السياسة، كما أنها كانت منبرا لإلقاء الشعر ونظم الكلام وحكي القصص والمغامرات و«الأزليات»، قبل أن يدور الزمن دورته ويهجم على فن الحلقة نصابون ومتطفلون بعضهم يبيع الأعشاب ومراهم لا يعلم مكوناتها إلا الله. حتى الحلايقي الذي صنعها لا يعرف كيف خلص إليها.
لم يكن أمام الحلايقية الحقيقيين، الغيورين على فن الحلقة، إلا أن يصمتوا أمام سفير بريطانيا في المغرب وهو يعيد الاعتبار إلى الفن الذي زاولوه بحب طيلة عقود. وعليهم الآن أن يحكوا لزوار ساحة جامع الفنا المستقبليين، عن السفير الذي ترك مكتبه وسيارته الدبلوماسية وعشاءات كبار المسؤولين، ونزل إلى الأرض لكي يمارس الفن.
في الأخير، لا يعيش كل الدبلوماسيين في التلفزيون فقط. بعضهم يختلفون كثيرا عن أسماك السياسة التي إذا غادرت «أكواريوم» التلفزيون، تموت اختناقا فوق الرصيف.





