شوف تشوف

الرأي

جمال حمدان وأحزان النيل

صبحي حديدي
الأنظمة الحاكمة التي يمر ببلدانها نهر النيل، حاضن الحضارات، الأطول في العالم، أو «واهب الخلد للزمان» و«ساحر الغيوب» الذي «شابت على أرضه الليالي»، كما سيكتب الشاعر المصري محمود حسن إسماعيل؛ لم تكن رحيمة به، سواء حين تسعى إلى استغلال عطاءاته الثرة فتقيم مشاريع الري الخاطئة التي تستنزف مياهه دون جدوى، أو حين تلوث منابعه مثل مجاريه وروافده وضفافه، فتضخ فيها مياه المجاري والقاذورات؛ أو تفرض زراعة محاصيل عالية الاستهلاك للماء (آلاف الهكتارات من الفصة في السودان، مثلا، لصالح السعودية!)… فكيف إذا انقلب جماع ذلك، وسواه، إلى ذرائع جيو – سياسية تستغل هذا المشروع المائي أو ذاك، لخدمة أجندات الأنظمة أو إلهاء الشعوب وشحن المشاعر القوموية المتعصبة.
فإذا ابتدأ المرء من حقيقة ديموغرافية بسيطة مفادها أن أعداد السكان حول حوض النيل بلغت أكثر من 400 مليون نسمة، وأن مجموع السكان في البلدان الثلاثة التي يمر فيها النهر تزايدت بمعدلات هائلة خلال الـ50 سنة الأخيرة (مصر قفزت من 75 مليون نسمة إلى نحو 100 مليون، والسودان من 7.5 إلى أكثر من 40، وإثيوبيا من 22 إلى 110!)؛ فإن الصلة البشرية بمياه النيل لم تتحول جذريا من حيث مبدأ الحاجة فحسب، بل كذلك بمعنى مفاهيم الكفاية وقواعد التقاسم واشتراطات البيئة؛ والبعض لا يتردد في الحديث عن العطش والجوع وحروب المياه الضروس.
وما من باحث جيو – سياسي وجيو – استراتيجي نذر نفسه لكشف الغطاء عن الأوجه العبقرية لنهر النيل، على خلفية عبقرية المكان المصري إجمالا، مثل المفكر المصري الراحل جمال حمدان (1928 ـ 1993)؛ في عمله الفريد «شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان». هذا سِفر في 4000 صفحة من استقصاء علاقات الجغرافيا والتاريخ والانتخاب الطبيعي والجيو ـ سياسي، وثقل المحيط والموضع والموقع، وفلسفة المكان والكائن، في الزمان الفعلي الصلب والجارح والواضح. ومن المحزن أن الكثير من نبوءات حمدان بصدد النيل، وتلك التشاؤمية القاتمة منها على وجه التحديد، تنطبق اليوم على عذابات النهر في ذاته؛ وعلى انعكاسات ما تعرض ويتعرض له من تشوه وسوء استغلال واستنزاف وإنهاك بفعل سياسات الأنظمة في إثيوبيا والسودان ومصر، على حد سواء.
وفي فصل مستقل بعنوان «تاريخ حياة نهر» يشير حمدان إلى أن النيل «لم ينشأ دفعة واحدة كنظام نهري واحد، وإنما تكون أصلا من مجموعة من النظم النهرية الإقليمية، بدا كل منها منفصلا مستقلا»؛ ولهذا، وإذ لا يدانيه نهر في اتساعه وأبعاده، «يوشك ألا يخضع للقوانين الحاكمة التي تضبط تركيب الأنهار العادية، ولا للتصانيف الفيزيوغرافية التي تقع فيها الأنهار عادة». ويستخلص، بعد استعراض مفصل لتاريخ النهر الجيولوجي (بل الأنهار، في الواقع)، أن النيل «سواء في صورته البدائية الأولية أو في صورته الحالية لا يدين بوجوده وأصله للحبشة أو غير الحبشة من المنابع، بقدر ما يدين لجيولوجية مصر المحلية في تطوراتها المتعاقبة».
وهذه ليست رغائب مجازية أو فرضيات تعسفية نابعة من انحياز حمدان إلى شخصية مصر، بل هي خلاصات علمية مستندة على معطيات، بعضها يبدو مذهلا حقا من حيث تأكيد المقولة العتيقة الشهيرة: إن مصر هبة النيل. وصحيح أن سد النهضة الإثيوبي يمكن، في الجوهر، أن يُفقر علاقة مصر بنهرها الخالد؛ وأن الاتفاقيات السابقة، منذ مطالع القرن الماضي وحتى اليوم، لن تفلح أغلب الظن في حسم الخلافات بين مصر والسودان وإثيوبيا. إلا أن الأصح، في الجوهر هنا أيضا، هو تلك التفاصيل اليومية التي ترسم صورة مأساوية لانتهاك النهر، وتلويثه، واستنزافه، وخفض الحصة البشرية من مياهه؛ حيث السدود، القديمة والجديدة، ليست البتة أولى أحزان «ساحر الغيوب».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى