الرأي

حين تنزلق الثورات إلى العمل المسلح

الثورة عمل انفجاري قد يكون سلميا وقد يكون مسلحا، وقد ينقلب من جانب إلى جانب. فيكون سلميا ليصبح ثوريا ببارودة، وقد يكون قاتلا دمويا ليلتقط الأنفاس من الجانبين فتبدأ المفاوضات، وهو ما يحصل في سوريا أو اقترب منه، كما حصل في فيتنام من قبل بعد مقتل خمسة ملايين فيتنتامي و47 ألف جندي أمريكي وهزيمة أمريكا، كذلك الحال في إيرلندا وحركة الباسك في إسبانيا، والمؤتمر الوطني في جنوب أفريقيا. فقد بدأ مانديلا عمله مسلحا لينتهي سلميا، كما أن أوجلان الكردي أعلن موقفه بعد أن أرسل إلى الموت ثلاثين ألفا من الأكراد والأتراك فقال إنه مع السلام حاليا.
وهذه القناعات تأتي من رحلات التأمل والصراع بين (الليبيدو) و(التانتوس) كما يقول فرويد، كأنه في حالة نواسية وأن هناك منزعا عظيم للموت كما هو في عشق الحياة والتعلق بها. فالحرب حالة لا تطاق، والظلم وضع لا يطاق، ومنه يحصل الانفجار للتعديل؛ فهذه قوانين كونية، ومنه ولدت (ظاهرة الحرب) فالفيلسوف (إيمانويل كانط) رأى أن عمارة الأرض جاءت من الهجرة التي كان خلفها الاضطهاد السياسي، وأمريكا الحالية التي أصبحت قوة استعمارية وأقوى دولة عسكرية على وجه الأرض ولدت من هجرة هؤلاء المضطهدين في الحقول الأوربية؟
الانفجارات تحدث بدون سابق إنذار واستئذان، فهي كالموت ليس لها صديق، وانفجار بركان إتنا في اليونان، أو تسونامي المحيط، أو انقذاف اللافا من بركان (كراكاتاو) في أندونيسيا يخرج عن التبنؤ حسب الإمكانيات العلمية الراهنة، والكل يعرف أن (سان فرانسسكو) غرقت بالزلزال عام 1906 وهو بسبب صدع أندرياس، ولكن لا أحد يعلم متى تقع الواقعة ليس لوقعتها كاذبة.
كذلك الحال في الثورات، والسبب هو أن علم الاجتماع يخرج عن قوانين الفيزياء التي تقول بغليان الماء في درجة الحرارة مائة، أو سيلان الحديد إلى اللزوجة في درجة حرارة 800 مئوية، ولكن علم الاجتماع معقد جدا، بسبب تضافر عوامل لا نهائية في إنتاج الحدث، ولا يتجرأ أحد فيرجم بالغيب؛ فيتنبأ بقوة الزلزال حين تتشقق الأرض ويطل برأسه، وإن كانت المؤشرات تقول إنها قادمة، كما كنت أتوقع للوضع السوري، وأنا السوري الذي غادر ديار البعث إلى يوم البعث.
مازلت أذكر الظلام في تلك الليلة، وأنا في بيتي على السطح أواجه السماء وأدعو بدعاء موسى من سورة يونس: ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين. فخرجت من البلدة الظالم أهلها، وحملت بناتي الخمس كما تفعل القطة مع صغارها؛ فأوينا في كندا إلى ربوة ذات قرار ومعين، حتى دفنت زوجتي (ليلى سعيد) في ثلوج كندا وكان هذا جيدا، لأنني لن أحظى بزيارة قبرها لو دفنت في سوريا؛ فسوريا كلها مقبرة، والسعودية تحرم بالأصل كل زيارة للقبور، وتهدم كل أثر للقبر من شاهدة وحجر ولا أفهمهم. ولكن حمدت ربي أن دفنت رحمة الله عليها في (مونتريال) فأنا أزور قبرها وأتذكر أياما جميلة امتدت بيننا 36 عاما عامرة بالرحمة والمودة والسكن، ولكن الله لم يتركني بل أكرمني بالمغرب وأهله وأهدوني أعظم هدية، سعاد السعيدة فهي رفيقة دربي هذه الأيام في رحلتي إلى الله.
كنت أتوقع لسوريا أربع نهايات: ثورة متفجرة بحجم مختلف وأعترف أنني لم أتصور أن تصل إلى ما وصلت إليه، وكل من يدعي أنه كان يتوقع هذا الانفلاق فهو كاذب. أو احتلال خارجي، أو ولادة روح عظيمة تغير البلد في نصف قرن، أو التجمد في مربع الزمن مثل الاسكيمو وبدو الصحاري.
لقد وضعت عائلة الأسد الدموية سوريا في براد لمدة نصف قرن، ودفعت أجيالا من الناس إلى العبودية، ولن يمكن أن يستمر هذا، لأن روح الله في الإنسان؛ فكان لا بد من الانفطار العظيم، فزلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها، وقال السوريون مالها.
انفجرت سوريا وكان هذا متوقعا باختلاف في رؤية الحجم، أما بالنسبة لي فكنت أردد من البداية أن عدد القتلى والمصابين والمعاقين سيقفز إلى حافة المليون. وأنه لن يبقى حجر على حجر. ولكن مجرمي الأسد سوف يدفنون كما تدفن أية قذارة في مزبلة التاريخ غير مأسوف عليهم، وإن كان ثمة ذكرى لهم فهي اللعنة وسوء الدار.
في كتاب «مملكة الأسد» ونهايتها لـ(فان دام) السفير الهولندي في مصر، توقع هذه النهاية وقال إن قبضة العلويين في سوريا سوف تتفكك بيد الأكثرية السنية في وقت مجهول. هنا أشير إلى حقيقة يجب الوقوف أمامها، هي أن العلويين في شريحة كبيرة منهم يقاتلون بجنب النظام جهلا وخوفا ورغبا ورهبا وتمويلا. ولكن هناك كمية صامتة منهم مثلهم مثل الكثير من السنة المرتزقة أو الرماديين. بمعنى أن أكثرية السنة العرب المضطهدين سوف يدمرون أسيادهم العلويين، ولكن ربما سيحدث، كما يقول ديورانت المؤرخ، بحيث أن الأكثرية المضطهدة في التاريخ تدمر الأقلية المستبدة، لتطيح بها وتستبدلها بأقلية جديدة في دورة عبثية، أو ربما بشيء من التغيير وربما إلى الأفضل حسب منطق القرآن. ومن المهم حين إنهاء هذا الوضع الشاذ أن ينشأ مجتمع ديموقراطي تعددي إنساني مفتوح فيه المجال للجميع بدون حكم عائلة وحزب شمولي وطائفة غبية.
عائلة الأسد الدموية لم تترك هامشا لتغير المجتمع السوري فانفجر؛ وبسبب القتل فقد دفع النظام المقهورين الخائفين إلى حمل السلاح وكان قرارا مصيريا ولكنه كان خاطئا. أذكر من الثورة الإيرانية التي نجحت أنه قتل من الناس صبرا وبالمظاهرات السلمية أكثر من ثمانين ألفا ونجحت، ولو استمرت إيران على هذا النهج لهزمت صدام، ولكنها وبكل أسف اغتيلت مرتين بقرار الحرب مع صدام وفكرة تصدير التشيع وهو مذهب عتيق لم يعد صالحا للمعاصرة، ولكن العقل الإنساني هو أكثر شيء جدلا. وحاليا في سوريا يتقاتل ويرتطم تيار القبوريين مع التكفيريين حتى يحترق الفريقان في هذه اللظى نزاعة الشوى، كما حصل للفاشيين والنازيين في أوربا؛ فمذاهب باطلة، النار أولى بها.
قد يكون ما يحدث من الانزلاق إلى الاقتتال هو المرحلة اللاعقلانية من تفكك النظام الأسدي الاستبدادي، للوصول لاحقا إلى المرحلة العقلانية التي سوف نشارك فيها – إن امتد بنا العمر – ولم يطل هذا الوقت. ومبدئيا أعطيه أنا حوالي عشر سنوات.
حذر أرسطو منذ ألفي عام من الثورات المسلحة، أما (ويل ديورانت) المؤرخ الأمريكي صاحب الموسوعة التاريخية فهو يذكر في كتابه (دروس التاريخ) في فصل الحكومة والتاريخ أن الثورة الحقيقية هي (تنوير العقل وتحسين الشخصية وما التحرر الحقيقي الوحيد إلا تحرر الفرد، وما الثوريون الحقيقيون الوحيدون إلا الفلاسفة والقديسون).
وفي ظل هذه الفلسفة أين هي الثورة السورية؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى