الرأي

داخل أم خارج الإنسان: ضلال الأبحاث

إن التوجه الذي مشت فيه الحضارة الغربية حتى الآن هو كشف الحقيقة خارج الإنسان، أي معرفة الوجود الخارجي، وهذا توجه يحمل نصف الحقيقة، ولعله النصف غير المهم، لأن أكبر مشكلة تواجه الإنسان ليست في علاقته بالكون، بل علاقته بأخيه الإنسان، فالكون نعيش معه في حالة سلام وتوازن منذ 500 مليون سنة، من خلال جسدنا الذي ينتسب إلى عديدات الخلايا، والذي يشكل قمة التكوين في الطبيعة، ويمثل دماغنا على وجه الخصوص أعظم تجلي للطبيعة.
وسارت العلوم في معرفة الفيزياء والكوسمولوجيا والذرة والبايولوجيا والكيمياء والطب والجيولوجيا، ولم تتوجه إلى اكتشاف أعظم قارة أي رأسنا الذي نحمله، وبدأت منذ فترة قريبة في التوجه إلى هذا الحقل حيث يعكف 2500 عالم في أوربا (غير النشاط الذي سبق في اليابان وأمريكا) على معرفة عمل النفس والجهاز العصبي والروح؟!
نحن لا نعرف الآن حتى جغرافيا المادة العصبية على وجه كاف؟ فكيف بعمل النفس من خلال الدماغ؟ ودماغ آينشتاين الذي تبرع به قبل موته، مازال يدرس بدون معرفة سر العبقرية التي جالت فيه وصالت، وتجلت بنظرية النسبية فأبدعت فقلبت مفهومنا عن الزمان والمكان المطلق لنرى العالم في صورة متصل الزمان ـ المكان.
هذا الانحراف أو هذا التوجه في مسار العلوم والذي سار عشوائيا بدون أي تخطيط، جعل عالم النفس السلوكي الأمريكي (سكينر) في كتابه (تكنولوجيا السلوك الإنساني) يقول بصورة لا تخلو من السخرية؛ بأن أرسطو لو دخل زماننا الحالي فإنه سيشترك بدون أي عناء في محاورات السياسيين الذين يقودون (بكل أسف) العالم الحالي، في حين يقبع المفكرون والعلماء والفلاسفة بدون أي أثر في مجريات الحياة الخطيرة، إلا أن إفلاطون وأرسطو سيسكتان كأي طالب متواضع أمام الكم المعرفي في أسرار الخلية أو أفكار النسبية وميكانيكا الكم والشيفرة الوراثية.
إن التعقيد الرهيب في فهم جدلية النفس وحركة المجتمع تخلق تحديا ليس من السهولة الاستهانة به؛ فهناك تداخل رهيب من عناصر التأثير والتنافر والتجاذب، مع هذا فإن توجه القرآن يؤكد على أن هناك شيئا ثابتا في الوجود، أي قوانينه و(سننه) التي لا تتبدل ولا تتغير.
وكما ذكرنا سننه تلك التي تسيطر على النفس والمجتمع (فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا)؛ فالوجود مضبوط بالسنن، ولن ترفع السنة ليوضع مكانها سنة جديدة، كما أن السنة لن تغير طريقها وهي تمضي في حركتها، لن يحدث تغير لا كلي ولا جزئي، ولم يبق أمامنا إذاً إلا محاولة فهم هذه السنة، وهذا يحمل في تضاعيفه تكريم رهيب للإنسان في أنه يستطيع فهم السنة ويتعامل معها. كما يقول طبيب العظام الدكتور محمد حسين في كتابه وحدة المعرفة أن العلم هو نقل المعلومات إلى الدماغ بالتطابق ولولا ذلك لكانت المعرفة مستحيلة.
ويتفرع من الفهم السابق أمر على غاية الخطورة، وهو علاقة السنة بالفهم الذي يقود إلى التسخير أي السيطرة على مفاتيح الحركة في مفاصل الكون في كل مستوى، والأمر الثاني وهو لا يقل أهمية علاقة العلم بالتنبؤ؛ فالعقل الإنساني يستطيع الفهم، وبذا يستطيع أن يتعامل مع الآية الكونية والنفسية والاجتماعية، وإدراك (ميكانيزم) عمل السنة يمنح تسخيرها أي الخدمة المجانية، والعلم هو القدرة على التنبؤ، من خلال ضبط السنة، وهو ما يطمح إليه العلماء اليوم.
يقول (ستيفن هوكنج) في كتابه قصة قصيرة للزمان ـ بالمناسبة هو مصاب بمرض عضال من شلل عضلي مترقي، أوصله إلى شلل رباعي، حتى كلامه يتم من خلال حنجرة الكترون ويستطيع تحريك ثلاث أصابع من أحد يديه ( لقد أعدنا تعريف مهمة العلم، بكونها اكتشاف قوانين، تمكننا من التنبؤ بالأحداث، ضمن الحدود التي يرسمها مبدأ الارتياب. ولكن يبقى السؤال: كيف؟ أو لماذا كان اختيار القوانين والوضع الأولي للكون).
علينا أن نتبين أنه وفي فترة النظام النيوتوني السابق اقترب العلماء من مفهوم تبين فيما بعد أنه ضبابي، أي أن الكون هو بمثابة ساعة أو آلة كبيرة، سوف يتم الكشف عن قوانينها والسيطرة عليها، وتبين أن الوجود أكثر خدعة، وأوغل في التعقيد، وأرعب في إمكانية الإحاطة به، وأكثر هلامية من الإمساك بقوانينه، وهذا يقودنا إلى محاولة اكتشاف العلاقة بين القانون والحرية. وكان الأثر الفلسفي لميكانيكا الكم الدور البارز في إدخال فكرة الاحتمالية في فهم الوجود (مبدأ الارتياب لفيرنر هايزنبرخ وبول ديراك ونيلز بور).
ومع انبثاق المعاصرة من خلال فهم أفضل للكون، وانزياح الأسطورة، واضمحلال الخرافة وانقشاع المفاهيم غير المؤطرة والمرسخة بالقالب العلمي، وبروز علوم جديدة، واختراق فضاءات معرفية جديدة وجريئة، يجب الأخذ بعين الاعتبار أن العلم لا نهاية له، وهو ينمو من خلال الإضافة والحذف وليس الإلغاء كما يخطر في ذهن البعض وإلا فهو ليس بعلم، صحيح أن التغير يعم الوجود وهو قانون إلهي أن كل يوم هو في شان، وأن الخلق في حالة زيادة، فهو كون من نوعية نامية ديناميكية، إلا أن هذا النمو والزيادة أيضا لها قانونها الذي ينتظمها.
بقي علينا أن نقترب لإدراك هذا القانون المتغير أيضاً، وأن الكون أعظم من كل ما يمكن وصفه به.
وقبل أن أجمع هذه المقدمة الهامة والضرورية في ترسيخ مفهوم السير في الأرض، حيث أن القرآن يأمرنا أن نتوجه إلى تحصيل علم هو خارجه، فالأمر بالسير هنا هو في الكون وليس في الكتاب. وإذ أغفل المسلمون هذه القواعد الذهبية من أجل إيقاد هذه النار المقدسة، من النظر في الكون، وإعمال العقل لفهم سننه، والانطلاق في الاستفادة من التسخير المودع بالكمون في تضاعيفه، كانت النتيجة طبيعية أن يطويهم التاريخ ليتقدم لقيادته من هو أهل للصلاح أكثر، وهذا يجعلنا نفهم بعداً جديداً في الصلاح الذي أرادته الآية القرآنية (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون).
من خلال هذا التأسيس لمفاهيم بعينها يمكن الآن أن نرى بنور أفضل الأحداث التاريخية كمثل الواقعة الفظيعة التي جرت في سهول أنقرة حين تم تحطيم أعظم قوة عثمانية في صيف عام 1402 م وهي تتأهب للانقضاض على أوربا، حيث كاد جذع الشجرة العثمانية أن يقطع ولما يقف على قدميه، ففي ذلك الصيف حصد سيف تيمورلنك أرواح عشرات الالآف في سهل أنقرة التي لا يعرف أهل العاصمة التركية اليوم ربما عنها شيئاً، كما هو الحال في معركة العقاب التي قصمت ظهر أهل الأندلس في عام 1212م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى