حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

شوف تشوف

دين و فكر

دين الفطرة والدورة التاريخية الرتيبة

بقلم: خالص جلبي

 

 

(34) كل مولود يولد على الفطرة ما هي الفطرة؟

خرجه البخاري في «صحيحه» (1385)، ومسلم في «صحيحه» (2658)، من حديث أَبِي هريرة رضي الله عنه، قَال: قَال النبِي صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فَأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أَو يمجسانه، كمثل البهيمة تُنْتَجُ البهيمة، هل ترى فيها جدعاء؟»

هذا الحديث يعطينا فكرة عن الإنسان أنه صفحة بيضاء، نحن من ننقش عليها بالتربية والأفكار والسلوك، ومن المهم أن ندرك أننا كائنات اجتماعية، فالمجتمع هو الذي يشكلنا. وأضع بين أيديكم قصة معبرة عن هذا المعنى.

 

صبي أفيرون الوحشي

بعد اندلاع الثورة الفرنسية بعشر سنوات، وقبل أن يغلق القرن الثامن عشر بعام واحد، ضجت فرنسا والأوساط العلمية من حدث صدم له المجتمع الفرنسي، وترك الناس حيارى في التفسير والتعليق، وسببه العثور على إنسان عار من غابة «أفيرون»، أشبه بالذئاب منه بالإنسان، ففي شتاء ذلك العام (1799م) ظهر للناس طلبا للدفء والغذاء صدفة، فأمسكوا به بعد عناء، كما هي أحداث قصة ماوكلي الطفل الذئب، الذي عرض في مسلسل للأطفال.

كان الطفل في حدود الثالثة عشر من العمر، قذرا تفوح منه الروائح المقرفة، عاريا تماما من أي لباس، لا يعرف معنى العورة، شرسا يعض ويخمش يد كل من يقترب منه، لا يمشي بشكل منتصب، بل منحني وأقرب إلى الحيوان ويهز جسمه طول الوقت، يروح ويغدو وكأنه في قفص الحيوانات، وبين الحين والآخر تعتري جسمه تقلصات مخيفة، كما كانت تعبيرات وجهه تخلو من أي مشاعر رحمة أو تودد.

 وقف الناس ينظرون إليه متأملين، فهو يمثل من زاوية «التكيف الممتاز» مع الطبيعة، أي يمثل الصنف المتوحش النبيل، كما كان يدعو إليه المفكر الفرنسي «جان جاك روسو» بالعودة إلى الطبيعة، لأن الحضارة هي المرض!  فالطفل كان ذا بنية مدهشة قوية ومقاومة للمرض، فقد استطاع أن يقاوم الموت كل السنوات الطويلة وهو عار، ونحن نسقط للرشح أو التهاب الصدر، مع لفحة هواء وبرد بسيط. ورأى فيه فريق آخر الهوة المرعبة، التي يمكن أن يهوي إليها الإنسان في عريه المطلق وقذارته البهيمية؛ عندما يعيش لوحده محروما من المجتمع، في حين حمد الله الفريق الثالث على نعمة العيش في مجتمع إنساني مظلل بالأمن والرفاهية.

الشيء المهم في هذه الحادثة أنها كانت محرضا للدكتور «جان مارك إيتار» على دراسة هذا المخلوق، حيث اختلف فيه فريقان، هل هو أبله رماه ذووه في الغابة، أم هو إنسان قد عاش في الغابة منذ أيامه الأولى؟ وأصر الدكتور إيتار على أن هذا الكائن ليس بإنسان «أبله» في حال من الأحوال، فهو لا يتصرف كإنسان وأبله، بل هو شيء مختلف تماماً، إنه إنسان لم يتصل «بالمجتمع الإنساني»، منذ أن بدأت حياته على هذا الكوكب.

صمم الدكتور إيتار على تجربة مثيرة للغاية، هي إعادة هذا المخلوق إلى حظيرة المجتمع، وأعطاه اسم «فيكتور»، ومرت التجربة لعدة سنوات.

 

 حصيلة تجربة الدكتور إيتار مع فيكتور

لم تكن التجربة سهلة، فهو لا يعرف الانتصاب ولا لبس الثياب، تناول الطعام أو قضاء الحاجة، لا أصول التعامل أو آداب اللياقة الاجتماعية، وقبل كل هذا لم يكن ينطق بكلمة فرنسية واحدة.

 ومن خلال تربية طويلة ولعدة سنوات، تقدم الصبي قليلا، فأصبح يعرف كيف يزرر ملابسه، أو يتبول، ينتصب نوعا ما، ويتصرف بشكل معقول، ولكن الشيء الذي استعصى هو اختراق «حاجز اللغة»! كانت اللغة هي العائق الرهيب الذي تحدى الدكتور «إيتار»، على الرغم من كل المحاولات المضنية خلال عدة سنوات؛ نعم استطاع الطفل أن يفهم بالسماع بعض الكلمات الفرنسية، ولكن شفتيه انحبستا عن نطق أي كلمة، كما انعقد لسانه عن التعبير بأي جملة واضحة سليمة التعبير، وكانت النتيجة التي خرج بها الدكتور إيتار أن المصيبة التي حلت فوق رأس هذا الصبي ليست بلها أو قصورا عقليا، بل العزلة الاجتماعية التي طوقت مصيره بظلمات غير قابلة للانفكاك. فكتب يقول: «يأتي الإنسان إلى هذه الكرة الأرضية بدون قوة جسدية، وبدون أفكار تولد معه، وغير قادر بذاته على متابعة قوانين طبيعته الأساسية التي ترفعه إلى قمة المملكة الحيوانية، ولا يستطيع الوصول إلى المركز المرموق الذي اختصته به الطبيعة، إلا إذا كان في وسط مجتمع، وبدون حضارة يكون الإنسان واحدا من أضعف الحيوانات وأقلها ذكاء».

قصة الصبي المتوحش في فرنسا ليست الأولى في تأكيد الأثر الاجتماعي في «تشكيل» الإنسان، فهناك قصة مثيرة تشبهها عن الملك «فريدريك»، حاكم صقلية، من القرن الثالث عشر للميلاد. وفي ضوء القصتين كيف يمكن أن نفهم مثلا قصة «حي بن يقظان» التي كتبها الفيلسوف الأندلسي «ابن طفيل»، الذي عاصر الفيلسوف ابن رشد، ووصل فيها من خلال من عاش وحيدا في الجزيرة يرضع من لبن الغزال، إلى تعلم اللغة وإدراك الحقائق العقلية الكبرى بدون مجتمع بشري، يا ترى ما مدى رصيد هذه القصة من الحقيقة؟

 

(35) الدورة التاريخية وكيف أننا لن ننجو من مرض الأمم وتشكلها التاريخي

عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُم شِبْرًا بشبْر، وذراعًا بذراع، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْر ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ)؛ قلنا: يا رسول الله؛ اليهودُ والنصارى؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: َفمَن؟)، رواه الشيخان. هذا الحديث يعطينا قانونا في دورة التاريخ الحضارية، وأننا لسنا استثناء من القانون الرباني. وبتتبع مسير الدورة الحضارية، نرى التكرار والتتابع لا يتوقف، وسأعرض للقارئ فكرة الدورة التاريخية.

الدورة التاريخية الخالدة

«بقرار الملائكة وحكم القديسين، نحرم ونلعن وننبذ ونصب دعاءنا على باروخ سبينوزا.. وليكن مغضوبا وملعونا، نهارا وليلا، وفي نومه وصبحه، ملعونا في ذهابه وإيابه، وخروجه ودخوله، ونرجو الله أن لا يشمله بعفوه أبدا، وأن ينزل عليه غضب الله وسخطه دائما .. ونسأل الله أن يخلص أولي الطاعة منكم وينقذهم، وأن لا يتحدث معه أحد بكلمة، أو يتصل به كتابة، وأن لا يقدم له أحد مساعدة أو معروفا، وأن لا يعيش معه أحد تحت سقف واحد، وأن لا يقترب منه أحد على مسافة أربع أذرع،  وأن لا يقرأ أحد شيئا جرى به قلمه أو أملاه لسانه».

نص اللعنة هذا لم يصب على رأس شقي، بل على فيلسوف يعتبر من أعمدة التنوير العقلاني في القرن السابع عشر، الذي تعتبر كتاباته التي لم تتجاوز أربعة كتب، إحدى المحطات العقلية الرئيسية، في رحلة اكتشاف مسيرة العقل الإنساني، ومغامراته العقلية الضخمة لاختراق المجهول في فضاءات معرفية شتى.

وفي عام 399 قبل الميلاد تم تقديم رجل عجوز يناهز السبعين عاما، إلى المحكمة في أثينا، بتهمتي الهرطقة وإفساد الشبيبة، وتم الحكم عليه بالإعدام من أجل آرائه، بجرعة سم الشوكران. كان هذا المجرم «سقراط»، واستقبل الموت وتجرع السم وهو يشرح أفكاره لطلابه المتحلقين حوله حتى اللحظة الأخيرة، وهم يحبسون دموعهم وزفراتهم في مشهد تناقض كوني من هذا الحجم، والتهمة الخطيرة التي كان يمارسها سقراط، بحيث اعتبرت جريمة في نظر المجتمع الأثيني، فصوت بالأكثرية لإعدام ألمع دماغ في المجتمع، أن سقراط كان يرى أن هناك شيئا واحدا فقط يمكن التأكد منه هو: جهله؛ لأن من يعرف أنه لا يعرف، يكون قد وضع رجله في أول طريق المعرفة، لتصحيح ما عنده والاستزادة المعرفية مما ليس عنده، في كون يعج بالمعرفة ووجود لانهائي يستحيل على النضوب المعرفي. وفيها حرر مبدأه الأخلاقي الذي استفادت منه مدارس شتى في التاريخ في تأسيس العلاقات الإنسانية، بعدم مكافحة الشر بالشر، وأنه خير لنا أن نتحمل الظلم من أن نمارسه، وأن التغيير الاجتماعي ينطلق مع ممارسة الواجب، أكثر من المطالبة بالحقوق، وأن الالتزام الأخلاقي هو الناظم المحوري في الحركة الاجتماعية، وأن البحث عن الحقيقة يجب أن يشكل نهم الإنسان الأول، بغض النظر عن الجانب النفعي فيها، في تشكيل عقل نقدي لا يعرف التقاعد أو الاستقالة، في  محاولة الاقتراب من الحقيقة….. فأعدمته أثينا في أكبر حماقة تاريخية.     

قرار لعنة سبينوزا كان في منتصف القرن السابع عشر للميلاد، ولكن قرارا مشابها صدر في حق دماغ إسلامي متألق، هو ابن رشد، في نهاية القرن الثاني عشر للميلاد، ولم تشفع له شيخوخته أن يلقى تحت الإقامة الجبرية، منفيا في قرية الليسانة اليهودية، ليموت بعدها حزينا كسير القلب، لا يستفيد منه العالم الإسلامي حتى هذه اللحظة، فهو ما زال على القائمة السوداء (مطلوبا). وتم تدشين الأيام الأولى من عام 1600 ميلادي، بحريق مروع ارتجفت منه مفاصل المفكرين في أوروبا، عندما أُحْرِق المفكر الإيطالي «جيوردانو برونو» حيا، في ساحة عامة.

ومرت الأيام وتتالت القرون فتم رد الاعتبار لسبينوزا، ونُحِتَ تمثال لسقراط يحدق بوداعة في حماقة التاريخ، واحتفل بذكرى ابن رشد، ونصب تمثال تذكاري لجيوردانو برونو، فيلسوف حرية الرأي، في الساحة نفسها التي شوي فيها حيا.

 فهذه أربعة أمثلة لأربعة مفكرين، من أربعة أديان. في نظم تاريخي ينبض بالوتيرة نفسها، ويلاقي المصير ذاته، بحماقة بشرية لا تعرف الحدود، ومتى كان للحماقة دواء.    

 

طالب الحقيقة عند الفيلسوف نيتشه

 وصدق نيتشه، الفيلسوف الألماني ذو العقل الجبار، الذي كان يرسم ملامح طلب الحقيقة وصعوبتها، ويعرف الثمن إليها، في قصص من النوع الذي سردنا حين قال: «لا يكفي لطالب الحقيقة أن يكون مخلصا في قصده، بل عليه أن يترصد إخلاصه ويقف موقف المتشكك فيه، لأن عاشق الحقيقة إنما يحبها لا لنفسه مجاراة لأهوائه، بل يهيم بها لذاتها، ولو كان ذلك مخالفا لعقيدته، فإذا هو اعترضته فكرة ناقضت مبدأه، وجب عليه أن يقف عندها فلا يتردد أن يأخذ بها. إياك أن تقف حائلا بين فكرتك وبين ما ينافيها، فلا يبلغ أول درجة من الحكمة من لا يعمل بهذه الوصية من المفكرين. عليك أن تُصْلي نفسك كل يوم حربا، وليس لك أن تبالي بما تجنيه من نصر أو تجني عليك من اندحار، فإن ذلك من شأن الحقيقة لا من شأنك».

 

قصة الفقيه ذي اللوثة العقلية

ينقل لنا الرحالة المغربي الشهير ابن بطوطة قصة مثيرة كان شاهدا فيها، في أثناء مروره على دمشق، حينما تعالى صراخ الناس في المسجد، وهم يحيطون برجل يشبعونه ضربا، فهرع مع الناس يستطلع الخبر، ليفاجأ بهجوم العامة الكاسح على فقيه «مصاب بلوثة عقلية»، تتعاون عليه الأيدي بالتأديب، بالنعال على رأسه. فسقط الفقيه، وطارت عمامته، وقيد إلى أحد القضاة للتعزير. وتفاجأ بأن الفقيه الذي طارت عمامته من خفق النعال على جمجمته، لم يكن سوى العالم المصلح المجدد «ابن تيمية»، رحمه الله تعالى!

هذه القصص وأمثالها تروي حقيقة إنسانية مكررة، في جانب الإصلاح العقلي، في دورة حزينة متكررة، ذات وقع رتيب، ودورة خالدة، ترسم التاريخ بالدم والسم والدموع والدخان واللهيب. لا مناص منها ولا مفر، لا وزر ولا مخبأ.

 

نافذة:

من يعرف أنه لا يعرف يكون قد وضع رجله في أول طريق المعرفة لتصحيح ما عنده والاستزادة المعرفية مما ليس عنده في كون يعج بالمعرفة

حمّل تطبيق الأخبار بريس: لتصلك آخر الأخبار مباشرة على هاتفك App Store Google Play

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى